د. قاسم المحبشى يكتب: لا قيمة للعلم وللتعليم إذا لم يتحول إلى ثقافة
لا أدري أيهما شدني للأخر الفلسفة أم علم النفس؟ ولكن اتذكر بأني أحببت مادة علم النفس منذ سنة أولى جامعة وكنت أحرز بها أفضل النتائج علم النفس العام وعلم مع الأستاذ علي منصور سنة أولى وعلم النفس الاجتماعي مع الاستاذة فتحية منقوش سنة ثانية، ثم نظرية التحليل النفسي مع الأستاذ الدكتور نمير العاني سنة رابعة.
عرفت نظرية الوارثة والبيئة والمدرسة السلوكية الأمريكية وثورانديك والجشطالطية الألمانية ونظريات التحليل النفسي عند فرويد وجان بياجيه وأريك فروم وأدلر ويانج ولاكان وغيرهم.
وبعد التخرج زاد اهتمامي بقراءة كتب علم النفس بما مكنني من تدريس مواد علم النفس العام وعلم نفس النمو ونظرية التحليل النفسي قرأت معظم كتب فرويد من الطوطم والمحرم وتفسير الأحلام وعقدة أوديب وعسر الحضارة.
وقرأت أريك فروم من الهروب من الحرية إلى اللغة المنسية وقرأت نظرية ادلر في عقدة النقص وقرأت نظرية الإدراك عند جان بياجيه ونظرية لاكان جاك في المرآة وتشكيل الشخصية، وغير ذلك من المراجعة النقدية.
وربما كان لشغفي في الدراسات النفسية أثرا في تحفيزي للتخصص في الفلسفة الوجودية وهي قريبة جدا من علم النفس إذ اخترت الكتابة عن الوجود والماهية عند جان بول سارتر بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي ١٩٩٥م.
في الواقع تبين لي من الخبرة والتجربة أن الفلسفة بوصفها معرفة كلية مجردة يصعب فهمها بدون دراسة علم النفس والعلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى.
فعلم النفس يمنحك استبصرات مهمه في فهم الكائن الإنساني على غموضه ونظرية فرويد في التحليل النفسي رغم كل الانتقادات التي وجهت لها تعد مدخلا منهجيا ومعرفيا مهما لمعرفة الإنسان ويستحيل تجاوزها، كما تعد نظرية إبراهام ماسلو في هرم الحاجات بالغة الحيوية والدلالة.
وعلم الاجتماع يضي السبيل في فهم الديناميات التي تحرك المجتمع، والأنثربولوجيا العامة والثقافية تنير البصر والبصير على الزوايا الخفية من الظاهرة الاجتماعية.
ودراسة التاريخ تمنحك رؤية منهجية عقلانية في فهم الفلسفة وفي ذلك قيل: إن الفلسفة بلا تاريخ خواء والتاريخ بلا فلسفة عماء!
وهكذا يمكن القول أن المعرفة تكاملية ومن الخطأ الفادح النظر إلى التخصصات العلمية بوصفها جزر منعزلة عن بعضها أنها رواد الثقافة التي تبقى بعد نسيان كل شيء! وهي بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات منها:
1 -التهيؤ: كما هو الحال بالتربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم الإنساني بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة.
والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) والثقافة بهذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو، بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم.
ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع.
2- الاستيعاب؛ بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية، فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.
3- الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.
4- الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) ذلك هو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى.
والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار.