د. قاسم المحبشى يكتب: حضارة الموجة الثالثة (1من2)
في رحاب الجمعية الفلسفية المصرية وبحضور نخبة متميزة من كبار الفلاسفة العرب منهم: الأستاذ الدكتور مصطفى النشار رئيس الجمعية وأستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة والأستاذ الدكتور السيد رزق الحجر أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة كلية دار العلوم. والأستاذ الدكتور الصاوي الصاوي أحمد استاذ الفلسفة في جامعة بنها ورئيس منتدى الفلسفة في ساقية الصاوي والأستاذ الدكتور علي حسين استاذ المنطق وفلسفة العلوم في جامعة عين شمس والأستاذ الدكتور أحمد الانصاري أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة القاهرة، والدكتور كريم الصياد استاذ فلسفة أصول الدين في جامعة القاهرة، وعدد من اعضاء وعضوات الجمعية الفلسفية والمهتمين من الباحثين والباحثات ومنهم باش مهندس فتحي غنيم والأستاذ إبراهيم موسى النحاس والاستاذة ليزا سعيد وحيدره القاضي وياسر الصلاحي، وعبدالعزيز القاضي وغيرهم ممن يؤسفني عدم التعرف على أسماءهم.
أدار الندوة بكفاءة واقتدار الفيلسوف التنويري العربي حسين على، وخلال ساعة ونصف احتدم النقاش حول نظرية الموجة الثالثة عند آلفين توفلر.
قدمت ورقتي في حدود نصف ساعة ثم فتح باب المناقشة وقد سعدت بالاستماع إلى مداخلات على درجة كبيرة من الأهمية من الأساتذة المشاركين واليكم الخلاصة:
توقفنا عند نمط جديد من أنماط فلسفات التاريخ، النمط الأمريكي البرجماتي كما عبر عنه آلفين توفلر في نظرية حضارة الموجة الثالثة.
وإذا كانت فلسفة التاريخ الكلاسيكية تبحث في سؤال ما هو التاريخ ؟ وما هي دينامياته؟ وإلى أين يمضي فان فلسفة التاريخ الأمريكية انصرفت للبحث في الحاضر والمستقبل.
ولا تظهر فلسفات التاريخ إلا في أزمنة المحن والأزمات الكبرى وعند الشعوب والدول التي تعتقد ذاتها سيدة التاريخ ومن يمتلك زمامه، في لحظتها التاريخية طبعا.
فحينما سقطت أثينا المدنية اليونانية بأيدي اسبارطة عام 404 قبل الميلاد في الحرب البيلوبونيزية، فكر أفلاطون بالتاريخ والسياسية وكتب كتاب الجمهورية، وكتب هيرودوت تعريفه الشهير للتاريخ بوصفه علما لتدوين الأحدث المهمة التي وقعت حتى لا تضيع في غياهب النسيان.
وحينما سقطت روما على أيدي البربر عام 476 ميلادي كتب أغسطين فلسفته في التاريخ.
وحينما سقطت الحضارة العربية الإسلامية تحت جحافل جيش المغول كتب ابن خلدون فلسفته بالتاريخ في كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، عام 1378م.
وحينما أجتاحت جيوش نابليون بانابورت ألمانيا البروسية كتب هيجل فلسفته في التاريخ العالمي.
وحينما هٌزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى كتب شبنجلر كتاب أفول الحضارة الغربية.
وحينما غابت شمس بريطانيا العظمى كتب أرنولد توينبي فلسفة في التاريخ ونظرية التحدي والاستجابة.
وحينما انتصرت الصورة البلشفية كتب بيلخانوف كتابه: “العنف والتاريخ”.
وحينما سقط جدار برلين وانهار المعسكر الاشتراكي كتب الامريكي فوكوياما كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، واعقبه صموئيل هنتينجتون بكتاب “صدام الحضارات”، بينما جاء آلفين توفلر مبشرا بميلاد حضارته الجديدة ؛ حضارة الموجة الثالثة.
وقد شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثًا عاصفة ومتغيرات متسارعة في مختلف الأصعدة الحضارية والثقافية والمدنية، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة للروح والعقل معا، إذ بدا الأمر وكأن التاريخ يترنح والأرض تميد بأهلها، والقيم تهتز والحضارة تضطرب، والفوضى الشاملة تجتاح كل شيء، وبإزاء هذا المشهد القيامي المجنون تحيرت أفضل العقول، وفقد العقل الإنساني بصيرته وقدرته النيرة في رؤية الأحداث وما ورائها، ومن ثم تفسيرها وتحليلها والكشف عن ثيماتها العميقة المتخفية في سبيل فهمها وعقلنيتها وإدراك معناها.
ووسط هذا السديم الحالك من الاضطراب العظيم والعمى الشامل، آخذ العلماء والمفكرون والمؤرخون يبحثون عن تفسير معقول لما يعتمل في الواقع ويدور في عالم جن جنونه وأصاب الناس جميعاً بالدهشة والذهول: فهذا المؤرخ الإنجليزي المشهور “جفري باراكلاف” من جامعة أكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة:
“إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وأن أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم”.
هذا الإحساس المتشائم بعدم جدوى التاريخ سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم بين قطاعات واسعة من الفئات المثقفة الأورأمريكية وهذا ما أفصح عنه المؤرخ البريطاني “ج. هـ. بلومب” في كتابه: “حيرة المؤرخ” عام 1964م، بقوله:
“ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، فــ 90% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق”.
من وسط هذا الفضاء الثقافي المزدحم بالنظريات والروئ يطلع علينا (آلـ?ين تو?لر) بتوصيف مختلف لأزمة الحضارة العالمية، ولكنه مثير وجدير بالاهتمام والتأمل، هو ما أسماه بــ (عصر الموجة الثالثة).
وتختلف وجهة نظر تو?لر بشأن أزمة النظام العالمي الجديد، و بشأن طبيعة الصراع الجوهري فيه، إذ هو على العكس من كثير من الكتاب الأمريكيين المتشائمين أمثال: “جون كينيت جالبريت” في كتابه: “أزمة الديمقراطية الأمريكية”، أو ديفيد هـ. دونالد المبشر بـ (جدب الحقبة الجديدة ) أو كتاب “بول كيندي”: “قيام وسقوط القوى الكبرى” الصادر عام 1987م وكثير من عناوين الكتب الجديدة – “الفجر الكاذب”، و “فقدان الأمل”، و “الجمهورية المجمدة”، و “بيع أمريكا” و “إفلاس أمريكا” و “الحلم الأمريكي المهدد”، وكتاب “آرثر هيرمان”: “فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي” الذي قال فيه:
“إننا نعيش حقبة أصبح التشاؤم فيها هو القاعدة فقد ظهرت سلسلة طويلة من كتب الأزمات تعدنا لاستقبال القرن الواحد والعشرين كمرحلة من التشوش العميق وعدم الثقة يبدو فيها الغرب – الذي يعني إلى حد كبير الولايات المتحدة، عاجزاً عن التأثير على ما ينتج عنه بأي شكل من الأشكال”.
إن تفاؤل تو?لر القوي بالمستقبل هو تفاؤل من نمط مختلف عن تفاؤل فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” كما إنه يختلف عن هنتجتون في تشخيص “صدام الحضارات”.
إن تو?لر يقر بوجود أزمة عميقة في قلب المجتمع الغربي لكنه لا يرى في الأزمة دلالة انهيار أو أفول الغرب بل بشارة ميلاد جديد لحضارة جديدة أخذت تبزغ لتوها من هشيم الحضارة الصناعية الغاربة إذ يكتب في مقدمة كتابه: “بناء حضارة جديدة” البيان الآتي:
“تواجه أمريكا “وهي رمز الغرب” تجمع أزمات لم يسبق لها مثيل منذ أيامها الأولى: نظامها الأسري في أزمة، وكذلك نظام الرعاية الصحية، ونظامها القيمي والمدني، أما نظامها السياسي فهو أشدها تأزماً، وهو الذي فقد – من كافة الوجوه العملية – ثقة الشعب به.
والسؤال هو: لماذا أصيبت أمريكا بهذه الأزمات في وقت واحد، كما لم يحدث في تاريخنا؟ هل هذه دلائل على اضمحلال نهائي لأمريكا؟ هل نحن في نهاية التاريخ؟.
ويجيب توفلر على تساؤلاته بالقول:
“إن أزمات أمريكا ليست نابعة من إخفاقها، و إنما هي نابعة من نجاحاتها المبكرة. وأحرى بنا أن نقول: إننا لسنا في نهاية التاريخ، و إنما نحن نشهد نهاية (ما قبل التاريخ)”.
هكذا نكون مع تو?لر مع التاريخ الذي لم ينتهِ والتاريخ الذي لم يبدأ، ويرى تو?لر أن ذلك الاضطراب الشامل الذي يعم الحياة الراهنة وما يخلفه من إحساس بالارتباك والخوف وفقدان الأمل والاتجاه يمكن أن يكون مصدره المباشر ذلك الصراع في داخلنا وفي داخل مؤسساتنا السياسية، الصراع بين حضارة الموجة الثانية المحتضرة وحضارة الموجة الثالثة البازغة، القادمة بهديرها لتأخذ مكان سابقتها.
ويذهب توفلر إلى أن الناس بدأوا متأخرين في إدراك أن الحضارة الصناعية تقترب من نهايتها وإذ تقترب من النهاية فإنها تجلب معها مزيداً من الحروب، وإن تكن حروباً من نوع جديد.
وفي نقده لطروحات هنتجتون وبول كنيدي وفوكوياما، يرى توفلر أن الصراع الأساسي الذي نواجهه ليس بين الإسلام والغرب، أو “الآخرون ضد الغرب” كما أعلن كنيدي.
ولا نحن في نهاية التاريخ، بل نواجه انقسامًا للعالم على ثلاث حضارات مختلفة ومتمايزة، والصدام بينها وارد، ولايمكن رسم حدودها وخرائطها باستخدام المفهومات والتعريفات التقليدية.
على هذا النحو الاحتفالي يبشر تو?لر بقدوم الحضارة الجديدة، (حضارة الموجة الثالثة)، الذي يرى تباشيرها تلوح في الأفق في مظاهر كثيرة رصدها في كتبه (تحول السلطة) و (وخرائط المستقبل) (وبناء حضارة جديدة) أمَّا بداية ميلاد الموجة الحضارية الثالثة فيحددها تو?لر في عام 1955م، الذي يعدُّه نقطة من أكبر نقاط الفصل في التاريخ، إذ شهد لأول مرة زيادة عدد العاملين ذوي الياقات البيضاء وأولئك الذين يعملون في قطاع الخدمات على عدد العمال ذوي الياقات الزرقاء.
وهذا هو نفس العقد الذي شهد انتشار استخدام الكومبيوتر، والطيران التجاري النفاث، وحبوب منع الحمل.. وغيرها، من المستجدات بعيدة الأثر.
وهذا بالتحديد هو العقد الذي بدأت فيه الموجه الثالثة تستجمع قوتها في الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين بدأت تصل في أوقات متقاربة إلى غالبية البلاد الصناعية الأخرى واليوم يصيب الدوار كل بلاد التكنولوجيا المتطورة بسبب التصادم بين الموجة الثالثة من جانب، واقتصاديات ومؤسسات الموجة الثانية التي أصبحت جامدة وانتهى زمانها من جانب آخر.
إن هذا الفهم هو مفتاح السر الذي يعطي معنى لكثير من الصراعات الاجتماعية والسياسية من حولنا.
هكذا يعلن تو?لر بيان البشارة تحت عنوان (الكفاح الأكبر) فيقول:
“تنبثق حضارة جديدة في حياتنا، وفي كل مكان يحاول رجال فاقدو البصر والبصيرة أن يوقفوا بزوغها، تجيئنا هذه الحضارة الجديدة بأساليب عائلية جديدة، وأساليب مختلفة لمزاولة العمل، والحب والحياة، كما تجيئنا باقتصاديات جديدة، وصراعات سياسية جديدة، وفوق كل ذلك: تجيئنا بوعي مختلف تواجه البشرية قفزة هائلة إلى الأمام، تواجه أعمق فوران اجتماعي، واشمل عملية إعادة بناء في التاريخ.
ونحن اليوم مندمجون في بناء حضارة جديدة متميزة بدءاً من البداية، وإن كنا غير واعين تماماً لهذه الحقيقة وهذا ما نعنيه بـ (الموجة الثالثة)”.
وللحديث بقية: