القس بولا فؤاد رياض يكتب: لاَ تَقْتُلْ
في حفل إفطار العائلة المصرية الأخير، أعلن السيد الرئيس لأول مرة للشعب المصري عدد الذين سقطوا شهداء من أبناء الجيش المصري في مواجهة الإرهاب الغاشم في الفترة ما بين عام 2013م وحتى وقت حفل الإفطار، وهو حوالي 3277 شهيدًا مُوضحا بقوله: “إن معنى ذلك أن هناك 3277 أسرة مصرية تتألم، وستتألم طول ما هم موجودين، ودول دفعوا الثمن علشان البلد تعيش”.
بالإضافة إلى أعداد اخرى من الشهداء- بعد تصريح سيادته- سقطوا برصاصات الغدر من أعداء الإنسانية والدين، وذلك في مناطق كثيرة (رفح، الشيخ زويد، العريش…إلخ)، وسقوط عدد ليس بقليل من شهداء الشعب المصري على اختلاف طوائفهم في هذه الفترة.
وأيضا سقوط عدد كبير من الشهداء الفلسطينيين طبقًا للمركز الفلسطيني للإحصاء الذي أعلن أنه أكثر من مائة ألف شهيد سقطوا برصاصات الغدر الإسرائيلي منذ نكبة 1948م وحتى 2019م، وبلغ عدد الشهداء عام 2021م في غزة فقط 357 قتيلاً (منهم 79 طفلاً، و69 امرأة).
وأيضًا الجريمة التي هزت الوجدان العالمي بقتل الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
ولا ننسى الحادث الاجرامي الذي وقع في الإسكندرية بقيام شخص يدعي نهرو عبد الرحمن بطعن القمص أرسانيوس وديد بطعنات قاتلة قاصدًا قتله، وفعلاً حقق مراده بقتل القمص أرسانيوس، فنال الشهادة (شهيد الوطن والكنيسة).
وحادث قتل أب لأبنته بالسكين، وحادث قيام العم بإشعال النار في أولاد أخيه بسبب الميراث.
ومصرع مدرس ب 22 طلقة بمنطقة الضبعة بمحافظة مطروح.
ويعوزنا الوقت لسرد حوادث القتل التي حدثت، وتابعنا أخبارها في الأيام الماضية.
والسؤال: لماذا يقوم هؤلاء القتلة بمثل هذه الأفعال؟ هل أقاموا أنفسهم آلهة، وأعطوا لأنفسهم سلطان الحياة والموت للآخرين على الرغم من عِلمهم عِلم اليقين أن سلطان الحياة والموت في يد الله وحده (يحيى ويميت من يشاء).
هؤلاء القتلة لم ينفذوا وصية الله القائلة “لاَ تَقْتُلْ” (سفر الخروج 20: 13)، وهي الوصية السادسة من الوصايا العشر، حيث تؤكد هذه الوصية الإلهية على عدم القتل العمد بغير حق.
من المبادئ التي يتفق عليها الجميع:
1 – احترام الحق في الحياة:
الحياة مقدسة بعلاقة الانسان مع الخالق، لذلك لا يجوز وضع حد لحياة بريء. فالقتل المباشر والارادي حَرمه الله في كل الأديان “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا” (سورة المائدة، الآية 32).
2- الإجهاض المباشر:
مُحرَم كل من يقرر أو يُشارك في القرار أو يحث عليه.
3- الانتحار أو المساعدة على الانتحار:
خطر على محبة الله العادلة ومحبة الذات.
4- حتى الأشخاص المشرفين على الموت:
لهم الحق في العيش ما بقي من حياتهم بكرامة (مساعدتهم، الصلاة من أجلهم).
5- احترام الجسد والكيان الإنساني:
ا- الصحة البدنية من واجبنا المحافظة عليها.
ب- الابتعاد عن المخدرات.
ج- الابتعاد عن الافراط في الطعام والتدخين.
6- العقوبة:
تُصلح خللاً ما نتيجة خطأ (مذنب)، وتحافظ على النظام العام، وأمن الأشخاص.
أغلب الناس يعتقدون أن القتل هو القتل الجسدي “المادي” فقط، ولكن هناك أنواع اخرى من القتل (الانتحار، الإجهاض، الموت الرحيم، اللعب بالعواطف، الكلام الجارح).
وصية الله “لاَ تَقْتُلْ” تُعني أن الله لا يطيق رؤية الدم البريء مسفوكًا بلا ذنب. إذ يقول لقايين “صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ.” (سفر التكوين 4: 10)، ولا يحتمل الله حتى سفك دم الشرير إذ يقول “«لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ.” (سفر التكوين 4: 15)
وتظهر كراهية الله أيضًا لسفك الدماء من خلال قوله لداود النبي الذي كان محبوبًا لديه “قَدْ سَفَكْتَ دَمًا كَثِيرًا وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي” (سفر أخبار أيام الأول 22: 8).
لقد كان قايين أول قاتل في التاريخ إذ قتل أخاه هابيل، لكن دماء هابيل كانت تصرخ من الأرض، فلا يمكن أن تمر جريمة بلا عقاب لأن الله نهى عن كل ما يٌسبب جريمة القتل لذا أوصانا بالوصية القائلة “لاَ تَقْتُلْ” (سفر الخروج 20: 13)،
قال السيد المسيح في موعظته على الجبل “«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.” (متى 5: 21، 22).
لم يعد القتل في شريعة الكمال هو القتل المادي المحسوس فقط، بل امتد إلى القتل الأدبي، والمعنوي، وكذلك القتل الجزئي.
يقول الكتاب المقدس في العهد الجديد ” كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ،” (رسالة يوحنا الأولى 3: 15). البغضة والكراهية لا تتفق مع نقاوة القلب “وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ،” (رسالة العبرانيين 12: 14).
فالبغضة والكراهية تقود إلى الغضب، أما المحبة فتقود إلى الوئام. لذلك قال السيد المسيح ” مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ “(متى 5: 22).
الغضب الباطل بأساليبه المتنوعة، يؤدي إلى القتل. ويزداد الأمر سوءًا إذا اقترن هذا الغضب بالتجريح أو الشتيمة. لم يسمح السيد المسيح بأن يُهان الانسان، وارتفع بقيمة الانسان جدًا، وأوضح أن كل ما هو ضد المحبة فهو ضد الله لأن “اللهَ مَحَبَّةٌ” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 8)
ولذلك قال مجرد كلمة “رَقَا” (متى 5: 22) التي تدل على عدم الاحترام، ولم ترقَ إلى مستوى الشتيمة. فقد نهى عنها السيد المسيح وقال “وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ” (متى 5: 22).
السيد المسيح يُعالج الخطية من جذورها (من الداخل) فالقتل هو النتيجة النهائية للغضب، والسخط، والمشاحنات، والكراهية لذلك لا يكفي أن يمتنع الانسان عن القتل المنظور، ولكن ينبغي أن يسلك في المحبة، ويبتعد عن القتل غير المنظور لا يكفي، حتى أن يبتعد عن العنف الخارجي بل يبتعد عن العنف المكتوم، والحقد، والرغبة في الانتقام أو التشفي.
إن الوصية الأولى والعظمى عند الله هي محبة الله من كل القلب، والوصية الثانية مثلها محبة القريب كالنفس. وقال السيد المسيح بهذا يَكمُل الناموس والأنبياء. فحينما نسلك في محبة الله فنحب القريب (أخي في الإنسانية) بهذا تَكمُن المحبة.
حفظ الله بلادنا مصر من كل سوء، ومن كل شر، ومن الأشرار القاتلين للنفس.
………………………………………………………………………………….
الكاتب: القس بولا فؤاد رياض كاهن كنيسة مار جرجس المطرية القاهرة