د. محمد ابراهيم بسيوني يكتب: التدين بين الاقتناع والإلزام

في أحد شوارع مدينة ما وقف أحد رجال الدين بزيه المعروف، التي يعكس مكانته الدينية في السلطة الحاكمة، وكان واقفا ينتظر أي سيارة أجرة تقف لكي يركبها، وأثناء وقوفه لاحظ هو أن معه عدة أشخاص واقفين ينتظرون سيارة أجرة، ولفت انتباهه أن كل سيارات الأجرة تقف لأي رجل أو امرأة بجانبه، أما هو فلم يجد أي سيارة تقله، عندها غضب من عدم تقبل سيارات الأجرة له.

وفي تلك الأثناء كان يقف شاب بسيارة الأجرة ويركب معه رجل الدين وعندما ركب أخذ يحدثه عن تصرفات سائقي سيارات الأجرة، وأنهم يقفون لكل الأشخاص من حوله ما عدا هو، وفي تلك الأثناء يقف سائق سيارة الأجرة في مكان مشمس، وقال سائق الأجرة لرجل الدين: انزل هنا، فقال له لماذا؟؟ قال المكان الذي كنت فيه، فيه ظلال تقيك من الشمس، أما هذا المكان فهو مشمس وأريدك أن تبقى في الشمس.

وبعد شجار نزل رجل الدين على الرصيف في مكان مشمس.

ما الذي دعا الناس لكي يتعاملوا مع رجل الدين بهذا الأسلوب؟ ما الذي خلق التنافر بين رجال الدين والمجتمع؟ هناك تساؤلات كثيرة ومثلها أجوبة أيضا، ولكن الجواب الذي يكون أقرب للتحليل الواقعي هو أن هناك إكراها لنمط معين من التدين يمارس على المجتمع، خاصة مع وجود مخالفات لبعض رجالات الدين، وبالتالي يتم التعامل مع ما يصدر منهم تحت دائرة عدم الاقتناع، وهذا ما يجعل دائرة النفاق والازدواجية تتسع.

ولذلك تقول كل الدراسات إن التدين الذاتي النابع من ذات الفرد أكثر شيوعا في الدول العلمانية التي تتسع فيها الحريات لممارسة كل أشكال ألوان التدين، والسبب أن التدين هنا لم يمارس كسلطة على الناس خاصة أنه يحصل غالبا مع هذه السلطة بعض الأخطاء التي تشوه الصورة العامة، ما يعني وجود فجوة بين ما يقال وما يطبق على أرض الواقع.

وبالتالي لم يعد مقبولا لحظتها القوة الإلزامية وعند تطبيقها فسيخضع المجتمع لها لكن نفاقا وهروبا من المساءلة القانونية، بينما في الحقيقة الواقعية سيكون هناك رفض شديد لكل أشكال القسر السلطوي وهذا ما تسير عليه بعض الدول من الداخل.

ومن يقرأ الواقع الاجتماعي يجد أن الفكر الانحلالي في تفكير الشباب هو الأعم الغالب، وأن المجتمع يسير نحو الفجوة الواسعة بين ممارسات السلطة الدينية وبين السلوك العام.

إن الحرية بتطبيقاتها المتنوعة، تعد من أبرز وأسمى القيم التي تستحق أن تكون معيارا عن مدى مكانة الإنسان واحترامه في المجتمع، ففي ظل أجواء الحرية النسبية، ولا سيما الحريات الفردية يتمكن كل فرد من حق الاختيار دون خوف أو نفاق أو مصلحة أو إكراه من أحد، وذلك في جميع شؤون حياته بحيث لا يطغى ذلك على طمس هوية المجتمع، فيتعزز من خلال تلك الحرية الوعي بأهمية القيم الأخلاقية والسلوكية التي نادت بها الأديان السماوية من خلال إيقاظ الضمير الإيماني كحرية الضمير، واحترام آدمية الإنسان والرقابة الفردية.

وعلى النقيض من ذلك فإن تلك المجتمعات التي تغيب عنها مظاهر الحرية الفردية غالبا ما تستشري فيها مظاهر النفاق والفساد والكذب، فيمارس الإنسان فيها أهواء ورغبات الأكثرية، وليس تدينه الشخصي ويتوافر في الحرية الركنان الأساسيان لها، وهما:

أولا: غياب الإكراه والقيود.

وثانيا: تمام القدرة على الاختيار.

لذلك فإن الإنسان الحر هو ذلك الإنسان القادر على تحديد خياراته الحياتية والعمل بها وفقا لقناعاته الشخصية من غير إكراه أو إلزام مع ضرورة نشر الوعي الديني العام بزرع القيم، بحيث تبرز في مجتمعاتنا الامتثال بالقيم والفضيلة اختيارا دون إلزام الناس بصورة معينة وحمل الناس عليها، دون التفات إلى معاني التدين الحقيقية.

إن طرح مفهومي التدين والفضيلة في إطار معين ومحدد، رغم تفاوت مفهوميهما ونسبتيهما، وإجبار الناس عليهما، فمن الطبيعي أن تكون نتيجته وعاقبته في كثير من الأحوال جعل النفاق والازدواجية بين الظاهر والباطن فعلا ممارسا ومنتشرا وشائعا في المجتمع، لأن الإكراه والإلزام إنما يؤديان إلى تظاهر بالتدين وليس إلى تدين حقيقي.

ومن المناسب الإشارة هنا إلى ما قاله الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في كتابه “خلق المسلم”: “إن الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل.. كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن”.

لذلك فإن أي سلطة مهما حاولت وسعت من أجل فرض رؤية محددة لمفهوم التدين والفضيلة على الناس على وجه القسر والإلزام فإنها قطعا ستفشل، إن عاجلا أو آجلا، وذلك لأنها تقف في وجه سنة من سنن الحياة وهي التنوع والاختلاف، والاقتناع الفردي الذاتي الداخلي، ولا سلطان على هذا الداخل إلا من الله أولا ثم من الفرد ذاته.

وفي المقابل فإن القوة الحقيقية للسلطة تبرز في تهيئتها لضبط السلوك العام الذي يتماشى مع كل قطعيات الدين والنظام العام تاركا مجالا للحرية فيما عدا ذلك، بحيث يملك الفرد حرية اختيار السلوك من عدمه مع التزامه بالقيم الدينية خشية لله ومراقبة له، وإلا ما الفائدة من إلزام الفتاة بشكل معين من الحجاب ومع صالة المغادرة ترمي الحجاب بأكمله، بينما لو كان الأمر مقتصرا على الإرشاد الديني بالحجاب عموما وتعزيز خلق الحياء والفضيلة تاركين ممارسة ذلك شكل الحجاب بقناعتهن عندها سنشهد تعددا في أشكال الحجاب، لكن مع قيام قيمة الفضيلة وهي القيمة الأساسية لفريضة الحجاب.

اقرأ ايضا للكاتب:

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى