عبدالحليم قنديل يكتب: أنياب روسيا النووية
هل يتحول صراع روسيا والغرب إلى حرب نووية شاملة ؟ ، التخوف مطروح من شهور ، لكن حدته زادت فى الأيام الأخيرة ، وبالذات مع فرض “ليتوانيا” حظرا جزئيا على نقل بضائع ومواد خام روسية إلى جيب “كالينينجراد” الروسى على بحر البلطيق ، ولم يكن لدولة صغيرة مثل “ليتوانيا” أن تفعل ، إلا أن تكون لقيت تشجيعا خفيا ودفعا من القيادة الأمريكية لحلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وهو ما بدا ظاهرا فى الدعم العلنى من الخارجية الأمريكية لإجراءات “ليتوانيا” العضو بالحلف ، وتأكيد التزام واشنطن بتطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف ، التى تعتبر تهديدات روسيا بمثابة إعلان حرب ، يوجب الرد الفورى العسكرى الجماعى .
وكانت موسكو هددت بإطلاق اليد ردا على إجراءات “ليتوانيا” ، واستدعت ممثليها ، كما ممثل الاتحاد الأوروبى الذى تنتمى “ليتوانيا” لعضويته ، وأبلغتهم بضرورة إلغاء تقييد نقل بعض البضائع عبر خط سكك حديدية واصل إلى “كالينينجراد” ، والأخير إقليم روسى صار منفصلا عن بقية اليابسة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى أوائل تسعينيات القرن العشرين ، ثم إعلان انفصال واستقلال “ليتوانيا” الواقعة بين الأراضى الروسية وإقليم “كالينينجراد” ، الذى ضمه الروس إلى أراضيهم فى معارك نهايات الحرب العالمية الثانية ، وانتزعوه من ألمانيا النازية ، وكان تابعا فى مراحل تاريخية أقدم للامبراطورية الروسية ثم لألمانيا بحسب سير التحولات فى موازين القوة ، وهو اليوم مركزصناعى كبير ، ويسكنه ما يزيد على مليون روسى ، فوق مساحة 15 ألف كيلو متر مربع ، وفى “كالينينجراد” مقر قيادة أسطول البلطيق الروسى ، إضافة لنحو 30 ألف جندى ، ونشرت موسكو على أراضيه صواريخ “اسكندر” طويلة المدى ، وزادت أهميته بعد ترك “فنلندا” البلطيقية لحيادها الذى كان معلنا ، وحسم رغبتها فى الانضمام لحلف “الناتو” ، فإقليم “كالينينجراد” على خرائط أوروبا أشبه بخنجر روسى ، وتحوله المتزايد إلى قاعدة صواريخ نووية متقدمة ، يجعله خنجرا نوويا روسيا مغروسا فى قلب أوروبا الأطلنطية ، وما من ترف عند موسكو فى التسامح بقضية “كالينينجراد” ، ولا فى التضييق على حياة سكانه الروس ، صحيح أن لروسيا إطلالة أخرى على بحر البلطيق عبر ميناء “سانت بطرسبورج” الأشهر ، وبوسعها أن تزود إقليمها المنفصل جغرافيا بما تريد عبر البحر ، لكن روسيا اليوم لا تعرف لغة التهاون فى حقوق ، بقدر ما تحرص على تكريس ومضاعفة الحقوق ، وهو ما يفسر عنف لغتها إزاء “ليتوانيا” والاتحاد الأوروبى والغرب بعامة ، فهى التى أنشأت خط السكك الحديدية عبر “ليتوانيا” العضو السابق فى الاتحاد السوفيتى ، ثم عقدت اتفاق شراكة وتعاون جمعها مع “ليتوانيا” والاتحاد الأوروبى عام 2002 ، اشترط حرية النقل والتجارة لتحصيل موافقة موسكو على انضمام “ليتوانيا” إلى الاتحاد الأوروبى ، وتعتبر روسيا أن نكوص “ليتوانيا” عن تنفيذ الشرط يلغى الاتفاق كله ، ويطلق يد موسكو فى فتح الطريق بالقوة المباشرة ، وهو الطريق المعروف باسم “سوالكى” ، ويمتد إلى “كالينينجراد” من نقطة التقاء حدود “ليتوانيا” و”بولندا” مع “بيلاروسيا” ، والأخيرة حليف ثابت لروسيا ، وبوسعها تسهيل مهمة القوات الروسية عند الاقتضاء ، إضافة لإمكانية تحرك القوات الروسية لفك الحصار الجزئى على “كالينينجراد” ، حتى بافتراض معارضة “بيلاروسيا” المستبعدة ، وبرغم ارتفاع
نبرة الأوروبيين والأمريكيين المعادية لروسيا ، وصولا إلى حديث لقائد الجيش البريطانى الجديد عن خوض حرب مباشرة مع موسكو ، إلا أن أصواتهم تبدو كطبل أجوف ، فقد حرضوا “ليتوانيا” الصغيرة على ما فعلت ، وبدعوى تطبيق عقوبات “الاتحاد الأوروبى” ضد موسكو ، مع إدراكهم لحقيقة التصرف ، الذى يعد عملا عدوانيا فجا ، يلزم موسكو بحسب عقيدتها العسكرية ، أن تستخدم كل قوتها بما فيها النووية لرد كل عدوان على أراضيها ، وهو ما يفسر تراجع لغة الاتحاد الأوروبى ، ودعوته موسكو لإيجاد حل دبلوماسى لمسألة نقل البضائع إلى إقليم “كالينينجراد” ، بينما تتمسك موسكو بشرط الإلغاء الأوروبى الفورى لإجراءات التقييد ، وجعل سيادتها وشئونها الداخلية بمنأى عن أى تفاوض ، والرد بالإجراءات العملية الأصدق إنباء من المناشدات والمكاتبات .
ونحسب أنه لا فرصة لأوروبا ولا لليتوانيا فى التشدد كثيرا بالموضوع ، ولا فى التلاعب بناره خضوعا للتحريض الأمريكى ، فليس بوسع أوروبا احتمال تداعيات قد تكون نووية ، وهى تعلم أن روسيا أكبر قوة نووية فى عالمنا اليوم ، ولديها ما يزيد كثيرا على نصف 13 ألف رأس نووى موجودة فى تسع دول ، بينها أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين ، إضافة إلى الهند وباكستان و”إسرائيل” وكوريا الشمالية ، وكل هذه الدول حصلت على ما يمكن تسميته “بوليصة تأمين نووى” لوجودها ، لكنها لا تملك فرصة منازعة روسيا فى التفوق النووى الرادع ، عبر شبكة هائلة من القاذفات الاستراتيجية والغواصات النووية والدرون النووى “بوسيدون” والصواريخ العابرة للقارات ، وأحدثها صواريخ “سارمات2 ” الروسية المقرر نشرها فى نوفمبر المقبل ، وسرعتها تفوق سرعة الصوت بعشرين مرة ، وبوسع الصاروخ الواحد حمل عشرة أطنان من القنابل النووية ، ولا توجد أى وسيلة لاعتراض “سارمات” بطبعته “الشيطانية” الجديدة ، وهو ما يثير رعب العواصم الغربية بعامة ، فلا يحتاج “سارمات” سوى إلى بضع ثوان لتدمير “برلين” أو “لندن” أو “باريس” ، صحيح أن الدمار النووى إن بدأت حربه ، فلن يستثنى أحدا ، وصار يكفى لإفناء البشرية كلها فى دقائق ، وهو ما يفسر ميل الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” إلى استخدام سياسة الحافة النووية ، وإعلان التأهب النووى مبكرا ، وهو يدرك تماما أن التهديد بالردع النووى له وظيفة محددة ، مفادها إطلاق يده فى بلوغ ما يريد بوسائل وبحروب تحت نووية كالجارية اليوم .
ولم يعد من جدال فى طبيعة الصدام المتصل على أرض “أوكرانيا” ، فهى ليست حربا روسية أوكرانية محصورة ، ولا مجرد “عملية عسكرية خاصة” كما تصفها موسكو ، بل تطورت إلى حرب ذات طابع عالمى تجرى فى الميدان الأوكرانى ، تصورت معها أمريكا والغرب عموما ، أن بوسعها استخدام الحرب بهدف إضعاف روسيا ، وربما تفتيتها ، وخلع رئاسة “بوتين” نفسه ، واستنزاف القوة الروسية فى أوكرانيا ، على طريقة استنزاف الاتحاد السوفيتى السابق فى حرب أفغانستان القديمة ذات السنوات العشر ، وبعد مضى أربعة شهور على بدء العمليات الحربية فى أوكرانيا ، وفرض أقسى عقوبات شاملة عرفها التاريخ ضد موسكو ، ودفع الغرب بكل أسلحته العسكرية إلى الميدان الأوكرانى ، وبتكلفة جاوزت المئة مليار دولار إلى اليوم ، دفعت منها واشنطن وحدها 54 مليار دولار ، وترويج “الميديا الغربية” المسيطرة عالميا لأكاذيب وقصص مثيرة للسخرية ، عن هزائم روسيا وتدهور صحة “بوتين” ، وعن خراب شامل مستعجل للاقتصاد الروسى ، إلا أن الحقائق الصلبة عادت فصفعتهم على الوجوه وركلت المؤخرات المترهلة ، واضطروا للاعتراف علنا بها ، فالقوات الروسية تتقدم ببطء ولكن بثبات وحزم ، وتدفع الرئيس الأوكرانى الصهيونى الكوميدى “فلوديمير زيلينسكى” إلى بكائيات الاستغاثة والصراخ اليومى ، فقد ذهب ما يزيد على ربع مساحة أوكرانيا إلى أيدى الروس ، وصار بوسعهم أن يسيطروا سريعا على ثلث أوكرانيا الأغنى المتقدم صناعيا والأهم استراتيجيا ، فى زحف لا يرحم على قوس الشرق والجنوب الأوكرانى ، فيما بدت لغة “بوتين” كاشفة لثبات عصبى مذهل ، ولثقة بلا حدود فى تحقيق كامل أهداف “عمليته العسكرية الخاصة” ، وإخراجه كل أسبوع لأسلحة روسية جديدة ، تبطل عمل أحدث الأسلحة الأمريكية المتدفقة بلا حساب إلى الميدان ، وتصادر مخازنها لحساب الجيش الروسى ، وتنقل تقنياتها المتقدمة كهدايا مجانية للمصانع الحربية الروسية ، فوق أن أسلحة روسيا قد أنهت عصر ودور الطائرات المسيرة “الدرونز” فى الحروب الحديثة ، وباتت تسقطها جماعيا كأسراب العصافير ، تماما كما يسقط المرتزقة الأمريكيون والبريطانيون أسرى وقتلى ، فى الوقت الذى صمد فيه الاقتصاد الروسى على نحو فاق كل توقع ، وصار “الروبل” الروسى أفضل عملات العالم أداء ، وتبين حجم المزايا النوعية الفريدة للموارد الروسية المتحكمة بالمصائر ، وبالذات فى مجالات الوقود النووى اللازم لتشغيل مفاعلات العالم ، وفى إنتاج “الغازات النبيلة” الخاملة وحيدة الذرات ، كالهليوم والنيون والرادون المشع ، وقد حظرت روسيا تصديرها ، وأوقعت مستشفيات الغرب بعد أجهزة الرنين المغناطيسى والرقائق الإلكترونية والصناعات والألبان فى أزمة ندرة خانقة ، فوق أزمات البترول والغاز الطبيعى والغلاء والركود التضخمى ونقص الحبوب والأسمدة ، وهو ما دفع “جوزيب بوريل” مسئول الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبى لإعلانها صريحة مستغيثة ، فقد قال أن أوروبا لم تحظر استيراد الحبوب والأسمدة من روسيا ، وموسكو على رأس قائمة مصدرى القمح فى الدنيا كلها ، وهو اعتراف بالعجز عن مقاطعة وحصار روسيا بأوهام عزلها ، بينما باتت نغمة التصعيد ضد روسيا ضعيفة باهتة معزولة ، فالكل خائفون من الدب الروسى وأنيابه “النووية” فى معناها ومبناها .