د. قاسم المحبشي يكتب: في ملامح التجربة الفنية للفنان يحيى عمر اليافعي
إن أصالة يحيى عمر اليافعي كشاعر وفنان متميز تكمن في تلك الحميمية الحية والحرارة المتدفقة والأثر الراعش والطاقة الانفعالية الهائلة التي شحنت بها كلماته السهلة الممتنعة، فهو شاعر السهل الممتنع بامتياز، فرغم مرور ثلاثة قرون على قصائده إلا أنها ما تزال تحتفظ بكل نضارتها المتجددة ونبضها المفعم بالحيوية والزخم الجميل الذي يبعث النشوة اللذيذة في الروح والقلب.
ومن بين فناني الماضي يعد يحيى عمر اليافعي أكثرهم حضوراً وتألقاً في فضاء الأغنية اليمنية والخليجية المعاصرة.وما تزال قصائده الغنائية على لسان أشهر الفنانين المعاصرين أمثال محمد عبدة وطلال مداح وعوض الدوخي وأبو بكر سالم بلفقيه وإبراهيم حبيب من البحرين وابن الساحل العماني، بل ما فتئ فناننا القدير محمد مرشد ناجي يتهدج بقصائد أبو معجب ويكتشف الجديد منها حتى اليوم.
وهناك قائمة طويلة من أسماء الفنانين الكبار الذين غنوا ليحيى عمر ومنهم محمد سعد عبد الله والفنان عبود والفنان كرامة مرسال وغيرهم. نقول ما فتئت هذه الأغنيات تهز النفوس من الأعماق وتلهب لواعج العشاق وتهيج صبابات الوجد وتثير أمواج عاتية من العواطف والانفعالات في قلوب المحبين ومتذوقي الجمال والفن، ومن ذا الذي ينسى تلك المتعة الآسرة التي تنساب إلى الوجدان حينما يستمع للفنان الراحل محمد مرشد ناجي وهو يغني:
يحيى عمر قال يا طرفي لمه تسهر
إن شفت شي في طريقك واعجبك شلة
إن كان عادك غريب ما تعرف البندر
إذا دخلت المدينة قول بسم الله
اتبع هوى البيض جملة واعشق الأخضر
وساير السمر والأحمر كذاك خله
الخضر دلة وفيهم نفحة العنبر
والبيض يسلوك للسمرة وللقلة
أسمر مع البيض كم يحلى به السمر
والشمع يزهى إذا شاف البها مثله
أو تلك الأغنية الرائعة التي تغنى بها الحارثي:
رحمن يا رحمن يا من فوق عرشه مرتفع
يا قاضي الحاجات يا من بالسراير مطلع
اليوم هذا قد صدفت الزين لبيض قد جزع
وأنا بصلي ما دريت إلا وهو عرضي نكع
حلفت يا من شاهده يبقى مكانه ممتنع
وإن شافه العابد وهو في قبلة الله يرتكع
بطل صلاته والعبادة ثم يخرج يبترع
وإن شافه الحاج انذهل عقله ومن سحره جزع
ومن منا لم تطربه أغنية طلال مداح (يا مركب الهند أبو دقلين ) الذي يقول فيها
يحيى عمر قال قف يا زين
سالك بمن كحل اعيانك
وشكلك بالحلل شكلين
وشك لؤلوك ومرجانك
من علمك يا كحيل العين
من ذا الذي خضب أوجانك
وغير ذلك من القصائد الغنائية الشهيرة التي تم جمع بعضها في كتاب (غنائيات يحيى عمر أبو معجب اليافعي) من قبل منتدى يحيى عمر ومديره الشاعر القدير محمد الوردي شفاه الله مما يعانيه من مرض. وتجدر الإشارة أن ما قام به منتدى يحيى عمر من جمع وإصدار كتاب غنائيات يحيى عمر يعد عملاً وجهداً يستحث الثناء والتقدير رغم ما اعتراه من ثغرات ونواقص كثيرة، فربما كان الإصدار الأول المعروف عن الفنان. غير أن الأمر المهم هو الإحاطة بشخصية هذا الفنان من كافة الأبعاد وذلك لا يتم إلا من خلال عبر ودراسات نقدية معمقة للتجربة الفنية الإبداعية التي عاشها يحيى عمر، وتحليل أنساقها الجمالية وصورها الفنية، والكشف عن المضامين والدلالات والأخيلة والتمثيلات والرموز التي تنطوي عليها النصوص الشعرية والأبنية الموسيقية وإيقاعاتها المتميزة. ونحن هنا لسنا بصدد القيام بذلك بقدر ما نود تسليط الضوء على بعض زوايا شخصية الفنان وطبيعة المؤثرات التي مارست اثرا شديداً في إنضاج تجربته الإبداعية الفنية .
أولا: المرأة ملهمة الفنان
لكل فنان ألقه وسر تألقه والمرأة هي هيام فناننا وعشقه الجامح، فالتغني بها والتغزل بجمالها ومفاتنها بأسلوب حسي باذخ وصريح – بالقياس إلى ثقافة زمانه- قد شغل الحيز الأكبر من شغف الشاعر ووله الفنان، كما أن الحنين إلى مسقط الرأس في جبال يافع الحبيبة وحسرة البعد والاغتراب عن مراتع الصبا وديار الأهل والأحباب، كانت بمثابة الألم الذي حفز تلك العواطف الجياشة المبثوثة في ثنايا القصيدة الزاخرة بالحنين والأشواق الممزقة في مواطن الاغتراب البعيدة. فالمعروف عن الشاعر الذي عاش في الفترة (1062هـ – 1152هـ) كثرة ترحاله بين الحواضر والمدن والبنادر المختلفة، حيث طاف عدن وصنعاء وحضرموت والهند والبحرين وجدة والبصرة وعُمان وغيرها. هذا معناه أنه لم يطب له العيش في مكان واحد، وبدا الأمر وكأن لديه حافز داخلي يستحثه على الرحيل الدائم، وذلك بعد أن قرر الرحيل من موطنه الأصلي في جبل المنيف من جبال يافع مودعاً الأهل والخلان والمنزل والوديان بقصيدة مؤثرة ومعبرة بعنوان (يقول يحيى عمر من ماتت أمه تقنع). ها هنا يبدأ طرف الخيط الذي من شأن الإمساك به أن يكشف نسيج العثكلة كلها، بل ويضيء المشهد برمته، أنه (موت الأم)، اليتم المبكر، فقد شاءت المقادير للفنان يحيى عمر أن ينشأ يتيم الأم في بيت بأس وبيئة جبلية قاسية، أسرة سحقها الفقر والعوز، وخاله شريره أذاقته صنوف العذاب والحرمان، وأب غليظ القلب كغلظ صخور الجبال ليس فيه مكاناً للرحمة ولا الشفقة.في كنف هذه البيئة الموحشة الخالية من أي ذرة عطف أو مسحة حنان ولد وترعرع وشب عن الطوق الفتى يحيى عمر، حيث كانت كل هذه الأشياء الحميمية، بل كانت كل هذه الأشياء الحميمية الصغيرة المؤطرة الأم، السكن، الأب، الخالة والحرمان والفقر هي التي تتفتح على الحياة المهيأة له منذ أن كان في الأقمطة.. التصميم على الهرب والهجرة، والاغتراب عن هذه المرابع القاسية. ففي لحظة وعي الذات الأسيانية وما أن يشتد عود الفتى اليتيم حتى يدرك ذاته ويكتشف مرارة وضعه، وكان أول ما اكتشفه آنذاك موت أمه، لينشد معبراً عن هذه المأساة بعبرة مختنقة وحزن كظيم.
يقول يحيى عمر من ماتت أمه تقنع
الماء طعمه صبر والقوت ما عاد ينفع
يا اح من خالتي خلت فؤادي موجع
ياربنا نسالك تنزل لها موت افجع
يومي وليلي وطرف العين معاد يهجع
لما الصميل المعقد طول ظهري بيقرع
باودع الدار ذي سووا ركونه مربع
إن فقدان الأم؛ حنانها وحضنها الدافئ والعيش في جحيم البيت الخالي من العطف والحنان كان قد خلق لديه الرغبة والحلم؛ الرغبة في الهرب وحلم البحث عن أم مفقودة. إن رد فعل (الأنا) الخلاقة كانت حلماً خافق الجناح نحو البحار البعيدة صوب المرابع الندية بلاد البنادر حيث الحرية والحب والحنان والسلوى والجمال المثير، حيث الخصب واللذة والألفة الحميمية والعشق والوصل والوصال. هكذا فجرت التواردات والمشاعر اللاواعية روح نورس الجبال الحزين ليطلق جناحيه للريح بحثاً عن الأنس والسلوى والحب المحروم فيما وراء الجبال الشاهقة صوب الآفاق المجهولة.على هذا النحو أخذ هذا النورس الصغير يستنهض أجنحته ويرنو بعينه إلى ما وراء الأفق، هناك حيث يطيب له العيش ويشبع رغباته المتعطشة للمسة جسد حانية وقبلة ثغر باسم، وإشراقة وجه صبوح تعويضاً عن حياة البؤس والحرمان والجدب العاطفي. فما أن وصل الفتى المراهق النحيل الجميل مدينة الحوطة العبدلية الوارفة الضلال وشاهد بأم عينيه جمال نساءها حتى ثأرت مشاعره وهجس قلبه الطائش
يحيى عمر قال يا طرفي لمه تسهر
إن شفت شي في طريقك واعجبك شلة
إن كان عادك غريب ما تعرف البندر
إذا دخلت المدينة قول بسم الله
اتبع هوى البيض جملة واعشق الأخضر
وساير السمر والأحمر كذاك خله
الخضر دلة وفيهم نفحة العنبر
والبيض يسلوك للسمرة وللقلة
أسمر مع البيض كم يحلى به السمر
والشمع يزهى إذا شاف البها مثله
وإذا كانت المرأة دوماً وأبداً هي الكائن الوحيد الذي يستطيع تخفيف كربة الرجل المغترب عن دياره في كل مكان وزمان تقريباً، فإن المرأة بالنسبة للفنان يحيى عمر ليست فقط الأنس والسلوى في جحيم الاغتراب، بل هي الغاية والهدف المنشود. إنها مفتاح السر في شخصية الفنان المحروم من الحنان، هي البديل المجزي للأم المفقودة، هذا الطموح الملتهب كشمس الجبال اليافعة هو الذي جعله يقرر الرحيل سيراً على قدميه الحافيتين سالكاً الطرق الوعرة والدروب الموحشة وهو لا يملك من متاع الدنيا شيئاً. غير أن تلك الرغبة المتعطشة للرحيل ومغادرة مدارج الصبا لم تكن تخلو من المرارة ومشاعر الحزن العميق، بل أن مثل هذا القرار الذي كان يعد حينذاك أشبه بالمخاطرة غير مأمونة الجوانب يعتبر مجازفة حقيقية لا ضمان لعواقبها، ولا يقدم عليها إلا شخصا جسورا يمتلك قلب لا يرتجف. إذ هنا ينبغي أن لا يكون الخوف هو الناصح. هنا ينبغي للروح أن تكون قوية.على هذا النحو يقرر فنان يافع الرحيل بقلب دامٍ وعيون دامعة إلى بلاد يجهلها حيث ينشد في قصيدة الوداع الأخيرة معبراً بعفوية عما يختلج به قلبه من مشاعر متناقضة:
يا مسقط الراس دايم فيك قلبي مولع
مطرح حلالي ذي بها شامخ أرفع
باودعك يا حلالي غصب والعين تدمع
مادام شفت البقاء لي فيك ما عاد ينفع
ســرحـت والـكـبـد حـسـيـته وقـلـبـي تـقـطـع
ورغم مشاعر التوجس من المصير المجهول وما يخبئه له الدهر من صروف الاقدار وحزنه العميق على فراق مسقط الرأس، إلا أن روحه المعذبة بوخز الضمير وعذاب الحرمان الدفين من حنان الأم المفقودة قد جعل كل شيء في عينيه يبدو مجدباً موحشاً لا يطاق، إذ كان كل شيء يتجاوب مع مشاعره المتخفية في أعماق اللاشعور وتحفيزه على الرحيل إلى بلاد الله الواسعة وبقوة شكيمة الفارس الواثق من نفسه والمؤمن بالله يقطع على نفسه كل تردد ويتخذ القرار الذي لا رجعة عنه بقوله:
رزقي على الله والأرزاق ماشي بتقطع
أنا توكلت على المولى وأرض الله أوسع
والباز من شيمته يقطع بنفسه ويشرع
مــا شــي حـدا عاد يحتب فـيه يـبزق ويـرقع وكـلما الـنوب تـزجل فـوق لـغصان تـرتع
. لقد كانت مدينة عدن هي قبلة الشاعر الذي يمم صوبها وجهه واشتاق إليها قلبه، ولقد كانت المسافة التي قطعها الفنان حتى يصل إلى (بندر) عدن تقدر حينها بثلاث أيام بلياليها مشياً على الأقدام وفي عدن، حيث تطفو الرقة والفن والنساء الجميلات، حيث اللطافة والغنج والعطر المثير والفل ولكاذي، كانت الدهشة الأولى التي أنعشت روح ابن الجبال وأثارت فيه نوازع العجب والفرح والنشوة، هنا تمتزج الدهشة بالسؤال وتضطرم في جوانح قلبه الملهوف بنار العشق وشهواته الطاغية، وفي أعماق الجسد الشاب تتقد نار الرغبة للنساء الغانيات الجميلات، الغواني الفاتنات من كل الألوان والأشكال. هنا يأسر قلب الشاعر ويسلب لبه ويقر جنانه ويصفو هاجسه وتطرب روحه
فيترنم بالقصيدة:
الحــب يا نــاس كم أفنى وكم أدمـــر … ما ترحمـــوا غيـر عاشـق فارقـه خــــلـه
لو كان بيــده مفاتيـح بحـــرها والبـر … الأرض ما تســـتوي عنــده كمـا قبـــــــله
وعاد قصة عجيبة في هوى الأخضر … شمـه وطعمـه وريقــه يبــري العــــــلة
يامــر وينـهـي ويحـكـم داخــل البنــدر … دولة عظيمــة ولا احــد يعصـي الـدولة
وصلت إلى بابـه المحـروس اتخـــبـر … متى يواجــه ابو معــجب يبا وصـــــــله
لكن ظمأ قلب الشاعر العاشق لا يرتوي بل يزداد لهيباً وعطشاً، إنه كمن يشرب مياه البحر، كلما شرب زاد عطشه، ولا يرتوي ظمأه حتى لو شرب البحر كله، فالهوى لا يحده حد ولا يشبع أبداً.
وعلى هذا سرعان ما تبددت وعود الحياة الرغيدة التي كان يحلم بها الفنان يحيى عمر في عدن المدينة إذ سرعان ما زالت المتعة التي هيأتها له هذه المدينة لينتابه إحساس بالضيق والضجر ، فلم يطب له العيش في عدن، بل ظل النداء الداخلي يستحثه إلى الرحيل بين المدائن والموانئ بحثاً عن المستحيل. عن الأم المفقودة التي إذا ما حرم منها الابن يستحيل العثور عليها في أي مكان آخر، ولا تستطيع نساء العالم أجمع تعويض رجل فقد أمه في سني المهد والطفولة سيما إذا لم تتعهده امرأة أخرى بحضن دافئ وصدر حنون وقلب محب، كما هو حال صاحبنا المسكون بضنى الطفولة وحرمانها.
إن المرأة الأم هي المكان المقدس الأول لكل إنسان إنها الكون الأول، السكن، البيت، الجنة، رمز الخصب والدفء والألفة والتوحد الحميم، أو كما عبر الشاعر المصري أحمد الشهاوي:
“هي الكون الأول لنا، الأرض التي نهبط فيها، أول مكان عرفناه وخبرناه، وكونّا معرفتنا به وعرفنا أسراره منذ كنا ماءً دافقاً إلى أن صرنا أجنة نستعد للخروج إلى العالم الأكثر رحابة” ولكنه أقل أمانا العالم من رحم الأم الحصين ومكان السر والتكوين ولذلك ارتباطنا بالمكان الأول، المرأة، يظل أكثر وثوقا وحضوراً في المخيلة والأحلام. فالمرأة مكان كون لا نهائي وغير محدود، ولعل هذا هو ما يفسر تلك السطوة الآسرة وذلك الحضور الطاغ للمرأة في نصوص الفنان يحيى عمر اليافعي، الذي بدا أشبه بعاشق النساء الأسباني الشهير (دون جوان) حيث تكشف تجربته الفنية والذاتية عن ولع شديد بالنساء وتبديل مستمر لعشيقاته، بل أن العلاقة بين الفنان والمرأة هي علاقة تمازج وانصهار روحي وجسدي، كما يتحد المتصوف بالذات الإلهية، إنها وحدة وجود وتوحد بين العاشق والمعشوق، يقول:
دهاني عذاب العشق لو كنت ميتاً
وجائع كيف أطيع بما بي وما هيا
وكأس المحبة نار يكوي على البدن
فمن يسقي الأحباب بارد وحاميا
وفي قصيدة أخرى يشتكي فيه ما أصابه من حالات الوجد والعشق والهوى بقول:
قال الفتى يحيى عمر قلبي تبلاه الطمع
العمر في التسعين لكن عاد قلبي ما اقتنع
الحب نبراس المعاني من خرج منه وقع
أصبحت يا يحيى متيم بين ربات النبع
إن المرأة كمكان أليف وأنيس للفنان هي أرضه ووطنه البديلين، لكنه مكان متجدد ومتوحد دوماً مع زمانه، وبتجدده وتوهجه الفياض تستمر حياة هذا النورس الجبلي المهيض الجناح، وتتجدد مشاعره الوقادة إلى آخر العمر. فهو ضد الرتابة والملل والقناعة في الحب والعشق.
ثانيا: الحنين إلى الوطن
إذا كانت المرأة هي عذاب الفنان الأول وهيامه الأخير، فإن الحنين إلى الوطن “الأم الثانية” الأرض التي ولد فوق ترابها واغتسل بمياهها واستنشق عبير هواها ولعب في مرابعها وطرب لشدو عصافيرها.
الحنين إلى مسقط رأس الفنان كان بمثابة ألمه السري الذي كان يستيقظ بشدة كجرح نازف في ضمير النورس المهاجر، وهذا ما تشف مرارته بوضوح في قصائده التي يصور فيها توق قلبه وحرارة أشواقه إلى ديار الأهل والأحبة في جبال يافع التي ظل يفتخر ويعتز بانتسابه إليها في حله وترحاله. ففي قصيدة بعنوان “ليت الهند في يافع” يفصح عن جواه المعذب وحنينه الدفين بزفرة حراء. حيث ينشد:
يحيى عمر قال ليت الهند في يافع
أوليتكم بأرض يافع ياهل هندستان
ما كان أنا شي من أهلي والبلد ضائع
وإن سبتكم قال لي ذا القلب عود الآن
ذكرت واشتاق قلبي لا جبل يافع
مشتقا للأهل والأحباب والخلان
للأرض ذي حلها كمن نمر شاجع
لاهتانت الأرض ما من يافعي لهتان
إن هذا الترديد الشاجي لاسم يافع المكان والذي لم يبرح مخيلته لحظة واحدة هو تعبير عن إحساس إنساني صادق، فليس أحب إلى المرء من ترديد اسم من تحبه نفسه. والوطن هو أحب مكان يشتاق إليه المواطن المغترب.
فكم منزلاً في الأرض يألفه الفتى
فحنينه الدائم لأول منزل
وقديماً قال الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن جاروا علي كرام
ولا تخلو قصيدة من قصائد يحيى عمر الكثيرة من ذكر اسم يافع والحنين إليها أو الفخر أو الاعتزاز بها فكما أن المرأة الأم، الحبيبة هي عقدة الفنان وسر تجربته، بالقدر ذاته كانت يافع المكان محوراً أساسياً في فهم التجربة الفنية الفريدة للفنان يحيى عمر اليافعي. بيد أن الرابطة العميقة بين الفنان وثقافته المحلية، هذه الثقافة من حيث هي فضاء التفكير والسلوك ومصدر للإحساس بالهوية والانتماء، هي ما يمكن الكشف عنه بسهولة من خلال إخضاع النصوص للفحص النقدي التحليلي وإماطة اللثام عن جملة من العناصر والأنساق اللغوية البلاغية والفنية الغنائية التي تجلي البيان عن السياق الحي الذي يتحرك في فضاءه العام، هذا الشاعر الغنائي الخالد.فبنية القصيدة ورموزها ومفرداتها وصورها وإيقاعاتها وأنساقها الفنية وأسلوبها، كل ذلك ينتمي إلى ما يعرف بلون الفن اليمني اليافعي الأصيل.
ختاماً: أرجو أن أكون قد حفزت القارئ العزيز للتفكير في فنان يمني أصيل ما يزال الكثيرون من الناس يعتبرونه أسطورة، وإذا كنت لا أنفي وجود بعض الملامح الأسطورية في سيرة حياة الفنان يحيى عمر اليافعي، فهذا لا يعني عدم واقعيته. وقد أبلى الزميل العزيز دكتور علي صالح الخلاقي بلاء حسنا بإعداد كتاب يحيى عمر اليافعي بعنوان ( شل العجب شل الدان) دراسه عن حياته واشعاره.