عبدالحليم قنديل يكتب: إذا أردنا حوارا
ليست القصة فى ترتيبات مؤتمر الحوار الوطنى المزمع عقده فى مصر ، ولا فى تشكيل مجاس أمنائه المعقول نسبيا ، لكن الأهم يبقى فى مضمون الحوار ، وفى نتائجه المنتظرة ، وفى مدى ملامستها للتحديات الأكثر إلحاحا للبلد وأهله .
الحوار كما هو معروف ، جاء بدعوة رمضانية من الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى ، الذى تعهد باحترام ما تنتهى إليه المناقشات ، وإن طلب استبعاد جماعات اليمين الدينى من “الإخوان” وغيرهم ، وعلى قاعدة اتهامات ووقائع تورطهم فى أعمال إرهابية “قتالية” ، وهو ما صادف حماسا عند أغلب المشاركين المدعوين ، وإن أثار اعتراضات البعض فيما يسمى معارضة الخارج ، لكن ما يبدو ضروريا عاجلا حتى قبل انطلاق جلسات الحوار رسميا ، هو تفكيك الاحتقان السياسى ، وتصفية ملف المحتجزين سياسيا وراء أسوار السجون ، وفى تقديرنا الذى نداوم على ذكره من سنوات بعيدة ، شفاهة وتحريرا ، وفى المنابر المصرية الداخلية قبل غيرها ، أن موضوع المحتجزين ، لا يصح أن ينتظر بدء الحوار وتفاوت وجهات النظر ، وأن الملف إنسانى قبل وبعد أى اعتبار آخر ، وأنه معلق بقرار من الرئيس السيسى باعتباره رأسا للدولة ، وأن المطلوب ببساطة ، ليس التعامل بالقطعة على طريقة “لجنة العفو الرئاسى” ، التى جرت إعادة تنشيطها ، ويؤدى عملها إلى الإفراج عن عشرات ومئات ، بل لابد عندنا من التعامل بالجملة ، وإنهاء مأساة آلاف مؤلفة من المسجونين ، وعلى أساس موضوعى صرف ، يضع خطا فاصلا بين معنى السياسة ومعنى الإرهاب ، وإصدار “قانون عفو شامل” ، يملك الرئيس صلاحياته ، وفرص تمريره السلس عبر البرلمان ، ويخلى بموجبه سبيل كافة المحتجزين لأسباب سياسية وقضايا رأى ، وأيا ما كانت ألوانهم الفكرية ، ولا يستثنى منه سوى المتهمين والمدانين فى عمليات عنف وإرهاب مباشر .
نعم ، إخلاء سبيل المسجونين السياسيين بالجملة ، هو نقطة البدء الواجبة ، وهو الإجراء الطبيعى الممهد لأى حوار يحتاجه البلد ، فليست القصة فى موقف ما من فصائل مشاركة أو مستبعدة ، بل فى إنهاء معاناة طالت للمحتجزين السياسيين وأسرهم ، تقادمت عليها السنوات ، ودونما بارقة أمل فى مغادرة ظلام السجون ، ولا فى نهاية تحقيقات ومحاكمات يجرى استنساخها وتدويرها ، ويتعلق الكثير منها بتهم غير منضبطة فى توصيفها القانونى ، من نوع تزكية التشاؤم ، أو نشر أخبار كاذبة ، أو الشروع فى مظاهرات سلمية ، أو كتابة رأى مخالف على وسائط التواصل الاجتماعى ، أو غير ذلك مما يتنافى بداهة مع مبدأ إشاعة الحوار واحترام الدستور ، ومع حظر الحبس فى غالب قضايا النشر بنص الدستور ، وتنقية قانون العقوبات ، وإلغاء التمديد اللانهائى لفترات الحبس الاحتياطى دون محاكمات ، وضبط تعريف “الإرهاب” فى قانون مكافحته ، وفى إضافات مغلظة جرت بعد وقف الرئيس العمل بحالة الطوارئ قبل شهور ، وإعلان إقتلاع الشتلة الرئيسية للإرهاب فى سيناء بالذات ، وبتضحيات جليلة ، سقط فيها نحو الثلاثة آلاف ونصف الألف من الشهداء العسكريين ، ومن مبادئ السياسة الصحيحة ، أن يرتبط كل إجراء بوقته ، وأن يكون لدى المعنيين حس التصحيح الذاتى ، والتفكيك المنتظم لظواهر الاحتقان عموما ، وإخلاء سبيل المحتجزين السياسيين بمبادرة رئاسية مطلوبة ، يتيح مناخا مواتيا لإجراء مراجعات وإصلاحات تشريعية ، يلزم أن تعطى لها الأولوية الملزمة فى مجلس النواب الموجود على علاته وتواضع تمثيله الشعبى .
ونظن أن مراجعة تركيب البرلمان نفسه ، باتت من واجبات الوقت ، إن كنا نريد إعطاء دفعة لإحياء السياسة من مواتها الظاهر ، صحيح أن قصة موت السياسة فى مصر قديمة ، وعمرها نحو خمسة عقود ، وتوالت انهياراتها عقب نصر أكتوبر 1973 للمفارقة ، وانفتاح “السداح مداح” ، وإحلال الركام محل النظام ، وخذلان السياسة لنصر السلاح ، والانزلاق إلى هزيمة حضارية شاملة ، وتحالف حكم الرئيس السادات مع جماعات اليمين الدينى فى حملة تكفير شاملة لمواريث عبدالناصر، وتوالى خطوات تحطيم تجربة النهوض المصرى ، وخلع ركائزها ، ودفع سواد المصريين إلى الهجرتين ، الهجرة فى التاريخ بظاهرة العودة الدينية العشوائية ، والهجرة فى الجغرافيا بحثا عن الرزق فى ممالك الصحراء ، وهو ما قاد إلى طمس ملامح المجتمع المصرى ، وتلاشى وضوح طبقاته وفئاته ، والعصف بجوانب الاستنارة فيه ، وتحوله إلى نوع من “الغبار البشرى” التائه ، وتتابع دورات موت السياسة بمعنى تمايز المصالح والاتجاهات والبرامج ، وسيادة وضع هجين شاذ ، تدهورت معه مكانة مصر حتى فى داخلها ، واعتلى كراسى السلطة تيار الفساد وشفط الثروة أو “اليمين الثروى” ، من “القطط السمان” إلى مليارديرات الخصخصة و”المصمصة” ورأسمالية المحاسيب ، بينما صعد إلى كراسى الشارع تيار اليمين الدينى المنتفخ بالفتاوى والفلوس ومليارديرا ت اللحى المصنوعة ، وتحول النظام الجمهورى من داخله إلى ملكية تمديد وتوريث عائلى ، وهو ما أدى إلى ردة فعل احتجاجية عارمة فى العقد الأول من القرن الجارى ، سبقت إليها أصوات “حركة كفاية” وأخواتها ، وانتهت إلى ثورة الثلاثين شهرا ، من ثورة 25 يناير 2011 إلى ثورة 30 يونيو 2013 ، كانت جموعها المليونية الزاحفة تعرف ما لا تريد ، وإن غاب عنها ما تريد بالضبط ، فهى لا تريد حكم جماعة الفساد ولا تحكم جماعة الإرهاب ، لكن طلائع الاحتجاج السياسية بدت أضعف تكوينا من دفقة الفوران الاحتجاجى ، وتنقصها القدرة على نقل الثورة من الميدان إلى البرلمان ، وبما جعل حدث الثورة ذاته عرضة للتلاعب والاختطاف ، وبديهى أن إحياء السياسة يلزمه إحياء المجتمع ، وبناء نسق اقتصادى إنتاجى صناعى زراعى تقنى ، يسترد للمجتمع حيويته ، فالمجتمع هو الذى يمد السياسة بماء الحياة ، وهنا قد تبدو الإجراءات التشريعية مفيدة مرحليا ، وبالذات فى اختيار النظام الانتخابى ، واجتذاب الناس للثقة فى صناديق الانتخابات ، وقد بدا ظاهرا للعيان ، أن اختيار نظام القوائم المطلقة ومزجه بالنظام الفردى ، أدى إلى مضاعفة ظواهر موت السياسة ونفور الناس ، وضعف الطابع التمثيلى للبرلمانات ، وتراجع نسب التصويت فى أوقات الانتخابات البرلمانية ، وإلى نحو عشرين بالمئة أو تزيد قليلا بحسب الأرقام الرسمية ، ولم يعد من بديل ، إن أردنا غرس معنى السياسة ، إلا أن تتحول نظم الانتخابات إلى اختيار نظام القوائم غير النسبية المشروطة ، فهى وحدها التى تحفظ لكل صوت مقابله التمثيلى ، وهى وحدها الكفيلة ببعث بعض الحياة فى الأحزاب المتكلسة ، ودفعها بالمصالح الانتخابية إلى إنشاء تكتلات سياسية متنوعة البرامج ، تقيم رءوس جسور حية بدلا عن موات الأحزاب وصوريتها الهزلية ، وتتيح للمجتمع أن يعبر عن نفسه بنفسه ، وبعيدا عن ضغوط الوصاية الأمنية وغيرها ، والدستور المصرى القائم ، يعطى للمشرعين حق اختيار النظام الانتخابى المناسب ، ولو صدقت النوايا وصحت ، فقد يمكن البدء بإجراء الانتخابات المحلية بنظام القوائم النسبية غير المشروطة ، وكان توقف إجراء الانتخابات المحلية فى مصر منذ 15 سنة مضت ، والدستور يلزم باختيار ربع المقاعد من الشباب وربع آخر من النساء فى المجالس المحلية على تصاعد درجاتها ، وفيها ما يزيد اليوم على ستين ألف مقعد خال ، من شأن شغلها ، أن يرسم خرائط مفصلة لأشواق المجتمع المصرى وأحلامه المكبوتة .
وفى السطور أعلاه ، بدا التركيز أكثر على الملف السياسى ، وإن كانت تحديات مصر الراهنة أوسع نطاقا بكثير ، وفى ظن كاتب السطور ، أن إنجازات هائلة توالت فى السنوات الأخيرة ، لكن الإنجاز المقدر الذى تحقق حتى تاريخه ، يقابله انحياز مقلوب لغير صالح الفقراء والطبقات التى كانت وسطى ، جعل “مصر الغاطسة” بتعبير الراحل د. رشدى سعيد ، هى مصر الأغلبية بنسبة تجاوز التسعين بالمئة من السكان ، وقد دفع هؤلاء أثمانا باهظة لبرامج ما يسمى “الإصلاح الاقتصادى” ، ويدفعون المزيد مع العودة لبرامج “الخصخصة” و”التصفية” وبيع الأصول ، الذى لا تستفيد منه سوى القلة المترفة فى “مصر الطافية” المتحكمة ، بينما الأغلبية فى “مصر الغاطسة” ، يعانون بطولة البقاء على قيد الحياة ، وهى بطولة مرهقة مستنزفة وصارت شبه مستحيلة ، مع تصاعد موجات التضخم والغلاء وتراكم ديون الاقتصاد ، خصوصا مع جوائح “كورونا” وعواصف الأزمة الروسية الأوكرانية ، وتضاعف فواتير استيراد القمح والزيوت والبترول ، وهو ما يلزم فى أى حوار ، وإضافة للملف السياسى طبعا ، بإعطاء الأولوية لمراجعة الاختيارات الكبرى ، وبالذات فى ملفات استكمال استقلال القرار المصرى ، ومنح الأولوية المطلقة للتصنيع الشامل ، ورد الاعتبار لمبادئ واعتبارات العدالة الاجتماعية ، وكنس جماعات امبراطورية الفساد ، التى لا تزال تسرق ثروات البلد وأصواته ، مع فسح المجال العام ، وإطلاق حريات الإبداع والرأى والتعبير والإعلام ، وفتح مسام مصر المسدودة .