د. قاسم المحبشى يكتب: تأملات في مخاطر نزع السحر عن العالم
للغيب سلطة وسلطته تنبع من ملكة الخيال وحاجة الإنسان للتجاوز والتسامي إلى ما هو أبعد من الواقع وحدوده الضيقة إذ أن في الوجود جانباً باطناً، لا مرئياً، مجهولاً، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية- العقلانية، وإن الانسان دونه دون محاولة الوصول إليه، كائن ناقص الوجود والمعرفة، وأن الطرق إليه خاصة وشخصية وفريدة وحميمة ولهذا سنجد أن هناك قرابات وتآلفات بين جميع الاتجاهات التي تحاول أن تستشرف هذا الغيب.
فالتجارب الروحية الكبرى في معرفة الجانب الخفي من الوجود تتلاقى بشكل أو بآخر فيما وراء اللغات وفيما وراء العصور، وفيما وراء الثقافات. وهذا هو مبعث ظهور الأساطير والايديولوجيات في كل العصور.
إن الكائن الإنساني هو أضعف الكائنات الحية على المستوى البيولوجي ولكنه أذكاءها وأقواها بسره الغيبي الخفي فالغيب هو سر تفوق الكائن بغض النظر عن المعنى الذي يكتسبه هذا البعد الخفي في الكائن ( العقل، الحرية، الخيال ، الإيمان ، الأمل، الحلم، الوهم، العدم، الموت، الخلود، المعنى..الخ).
وكل الخرافات والأساطير والأيديولوجية هي تعبيرا عن تلك الحاجة الإنسانية المتعطشة للاشباع إذ أن الانسان ظامئ أبداً الى أن يتجاوز ويتسامي ويجسد ويتجسد إلى أن ينفصل ويتصل.
ظامئ إلى الوحدة لا إلى التجريد وإلى المشاركة لا إلى الهيمنة وفي مثل هذه اللحظة أيضاً يزداد الانسان يقيناً بأن في أعماقه محيطاً تسوره وتلجمه سدود وحواجز من كل نوع، وأن حياته ستظل زبداً إن لم يهبط فيه محطماً سدوده وحواجزه، حيث يرى ما لم يره، (ما لا يرى) ويفكر بما لا يفكر فيه ويحس بما كان يعتقد أن أحداً لا يحظى به، وحيث يفتح له عبر هذا الهبوط والتسامي في هذا الميحط، عالم ليس محدوداً بالاشياء، وإنما حدوده الفكر والخيال.
وربما كانت هذه اللحظة لحظة الحب بامتياز: “ففي الحب يتجاوز كل من المحب والمحبوب فرديته، يتجاوز كل من العاشق والمعشوق كينونته، يتجاوز كل من الرجل والمرأة أنيته في وحدة، يشعران فيها أنهما أكثر مما هما في الواقع والمطلق، الوجود وما وراءه، ولا يعود كل منهما إلا تجلياً للآخر يتجلى له، ويتجلى فيه ويتجلى عليه، ويتجلى معه ويتجلى كمثله من هذا السر العميق أنبثقت الصوفية بوصفها تجربة وجودية تتصل بما هو خفي وغيبي وعميق بحسب أودنيس.
والاتجاه إلى الصوفية أملاه عجز العقل والشريعة الدينية” عن الجواب عن كثير من الاسئلة العميقة عند الإنسان، فكيف يمكن أن يعيش الإنسان بدون وهم من الأوهام؟ تلك هل صرخة نيتشه مكتشف العدم في قلب الحضارة الصناعية الحديثة.
ومن الأخطاء الشائعة أن نيتشه هو القائل بموت الله! على العكس تماما إذ صرخ قائلا: “لقد فتشت قلبي وقلوب أهل زماني فوجدت أن الله قد مات” يقصد الإيمان بالمسيح.
وأضاف متسائلا: “يا للهول هل يستطيع الإنسان أن يعيش دون أن يؤمن بشيء ؟”.
تلك هي المسألة التي حيرت نيتشه ولازالت تحير الحضارة المعاصرة: نزع السحر عن العالم وترك الإنسان مغتربا في عالم خالي من الأمل والمعنى العزاء والسلوى، إذ بات الإنسان بعد نزع الغيب يعيش عالماً يفتقد إلى السحر ويتراجع فيه الشغف ويكاد يخلو من المعنى بحسب صلاح سالم في كتاب تأملات في الوضع البشري.
إذ أن مسيرة التقدم البشري تكاد تتوازى مع صيرورة نزع السحر عن العالم، ونفي العنصر الغيبي في تفسير الطبيعة والمجتمع والتاريخ.
لقد جرى التخلص أولاً من سحر الخرافة الذي أفضى لأشكال من الوصاية كانت عبئاً على الوضع البشري.
ولا ريب أن التقدم التكنولوجي قد أفضى إلى زيادة رفاه الإنسان ولكنه زاد في تعاسته وضعف شغفه بالحياة ومباهجها.
كتب صلاح سالم: “يدعي علم «البيوتكنولوجي» أنه يعمل لأجل الإنسان، لإطالة عمره وتحسين صحته أو لزيادة جماله وذكائه، فيما يفضي جوهرياً، حال اكتمال الفتوحات والتوجهات التي يجري الحديث عنها الآن، إلى اغتيال جوهره المتفرد، سر نوعه الضعيف بيولوجياً لكن القادر على التسامي روحياً، المدرك لمحدودية عمره وحقيقة موته، ولكن المتعايش معهما حتى إنه يبدع على حافتهما جل فلسفاته، محاولاً تفسير مغزى وجوده ومعنى غيابه. إنه السر الذي يمنحه القدرة على أن يفكر ويتألم، يبحث عن إلهه فيؤمن به طلباً لعنايته أو يلحد فيه متحدياً مشيئته، السر الذي يتيح له أن يخطئ ويندم، أن يحلم ويسعى لتحقيق مآربه، أن ينجح ويخفق، ففي تلك النزعات المتفردة للروح يكمن سر تساميه على المخلوقات الأخرى، وفي غيابها يفقد جل ملكاته الخلاقة كالعقل الحر والروح المتمردة، وليستحيل صاحب الضمير المتوثب إلى كائن مسطح كالجماد، أو كائن غريزي كالحيوان جسده الظاهر أهم شيء لديه، ولا معنى خلفه، ولا شيء يلبي حاجته إلى مصدر للطاقة النفسية، والشعور بالانتماء المشترك والتضامن الفعال مع المجتمع”.
فكيف تكون حياة الإنسان بدون حلم ولا أمل ولا تطلع ولا خيال في عالم الأدواتية والاستهلاك، كما وصفه هربرت ماركوزه بـ “عالم البعد الواحد” ؟.
ورغم ما كإن للايديولوجيا الكلية وسلطتها الغيبية من مأسي مروعة في الماضي أن غيابها كلية من أفق العالم ربما يفضى إلى نتائج لم تكن بالحسبان.
يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو: «إن وظيفة الآيديولوجيا اليوم هي قتل الأمل وإقناعنا بأن العالم سيئ».
فالفرد نفسه لم يعد يؤمن بوجود حقيقة واحدة موضوعية، وهنا تكمن المشكلة، فرفض وجود حقيقة موضوعية يُبقي العقل في حالة من التذبذب وينفي عنه قدرته على التفكير والحكم.
ولعلّ أولى آيديولوجيات عصر ما بعد الآيديولوجيا التي تعمل بالسلب هي الزعم بأن العصر الذي نعيشه هو عصر بعد آيديولوجي. فعبر هذا الزعم، لا يُجرَّد المرء من الأمل النفسي فحسب، بل أيضاً من أدواته المعرفية التي تساعده على إدراك الآيديولوجيا، وبالتالي رفضها.