د. ناجح إبراهيم يكتب: رحلة العيد إلى الصعيد

كتب الدكتور ناجح إبراهيم مقالا بعنوان : “رحلة العيد إلى الصعيد” ونشرته صحيفة الوطن، وفى التالى نص المقال:

فى الأعياد والمواسم يشد الصعايدة رحالهم من كل فج عميق ليصلوا أرحامهم ويتواصلوا مع آبائهم أحياءً، أو ليزوروا قبورهم أمواتاً، وليتذكروا طفولتهم وشبابهم فى بلادهم الرائعة، ويتواصلوا مع الأجيال الجديدة من أسرهم، فتكتظ القطارات والأوتوبيسات بهم، حاملين معهم إلى الصعيد مختلف الهدايا، ومحمَّلين من الصعيد بخيرات الله.
إجازات العيد هى أبرز أيام التواصل مع الأهل والأحباب والأصول والفروع، رحلتى هذا العام كانت ممتعة لم يعكر صفوها سوى الحر الشديد وكذلك التأخر غير المنطقى للقطارات والذى تجاوز سبع ساعات أصابت الركاب بالحيرة والضيق.
أحط رحالى عادة عند أختى الكبيرة «أم أشرف»، وهى تشبه والدتى، رحمها الله، فى أن بيتها مفتوح على الدوام لأى ضيف أو مكروب أو طالب خدمة، فى بيت أمى كنت ترى قرابة عشرين فرداً يأكلون وبعد فراغهم يدخل آخرون فيجدون طعاماً.
بيت أختى مرتب، منظم، رغم تجاوزها السبعين، تدخل أفواج وراء أخرى فتأكل وتشرب الشاى مرات دون ضجر أو ضيق، بعد انكسار الشمس تبدأ رحلتنا المقدسة لزيارة قبر والدىَّ، أتذكر بذلهما وعطاءهما وتضحياتهما من أجلى، أتذكر كم كنت سبباً فى معاناتهما سنوات، أتذكر رقتهما وأدبهما، لم يجرحانى يوماً، لم يطعمانا يوماً لقمة من حرام، أدعو ويؤمِّن أشقائى وأحفادهم، ندعو معاً لشقيقى الطيب/ أحمد سعيد، الذى مات صغيراً، ننتقل إلى قبور أخرى غالية فى طرف آخر من المدينة، حيث زوج أختى الكبيرة وأسرته، رحمهم الله، عم قاسم، الشهيد الغريق، لحقه حفيده محمد أشرف، الذى يعد الشهيد المبطون الذى مات وهو فى ريعان شبابه وهو يقاوم أعتى الأمراض التى نهشت عظامه، وتحمَّل لعامين ما لم تتحمله الجبال، ويواظب والداه على زيارته أسبوعياً ويهتمان بقبره كثيراً، هناك تقرأ لافتات لزملاء الدراسة وأطباء أكبر وأصغر منك.
ثم نذهب معاً لقبر خالتى، التى كانت متفردة فى الكرم، وليس هناك من أقاربنا من لم يطعم أو يبيت مرات فى بيتها، نتذكر طيبة قلبها وجمال ظاهرها وباطنها، نتحسر جميعاً على بيوت مفتوحة قد أُغلقت، الآن صعب جداً أن تجد بيتاً مفتوحاً لكل أقاربه وذوى رحمه والفقراء، بركات البيوت المفتوحة يعرفها من عايشها وكان جزءاً منها، محطتنا الثانية دوماً عند أستاذى ومعلمى أنا وأشقائى أ/ صلاح، أحد الرموز الجميلة فى أسرتنا، حيث جمع الله جندية الجيش سبع سنوات، مع فضل العبور فى حرب 6 أكتوبر وأسر جنود إسرائيليين ضمن كتيبته ومع مجموعة من المدرسين من بلدتنا ديروط عبروا القناة جميعاً وأبلوا بلاءً حسناً وبعضهم أصيب مثل أ/ صلاح، كما جمع الله له فضيلة الصبر على وفاة زوجته الشابة فوهب حياته كلها لأولاده وأحفاده ثم ابتلى بوفاة ابنته الشابة تاركة ولدين لتكرر قصة حياتها، حيث عاشت يتيمة الأم وتركت أولادها كذلك، موجات متلاحقة من الصبر واليقين عاشها أستاذى وكلها منحته صلابة ويقيناً لم يتوافر لأحد، أستاذى أديب ساخر متمكن، ولولا ظروف أسرتنا لأصبح كاتباً فى «الأهرام»، وهو متبحر فى الأدب واللغة والتاريخ والقصص والسير، ولكن ظروفنا الصعبة لم تمنحه الفرصة العادلة التى يستحقها.

ثم نذهب إلى الشقيق الذى يليه وهو الأطرف والأكثر دعابة ورفقاً فى الأسرة لنسعد بأولاده وأحفاده، ثم نجتمع مع باقى الأشقاء الذين يسافرون لنا أو نسافر لهم فى بلادهم القريبة لنلتقى عادة فى بيت أختى، هذا يأكل، والأطفال يلعبون ويعبثون ويتضاحكون أو يتشاكسون، وآخر المطاف يكون فى بيت شقيقى الأصغر «مجاهد»، المشهور ببر الوالدين وصلة الرحم، وهو الذى كان يحمل والدى طوال فترة مرضهما، ونال بذلك بركتهما، أحلى ما فى عيدية هذا العام هو توزيع العشرة جنيهات الجديدة «البلاستيك» برونقها الرائع، فكانت مفاجأة لمعظم الأطفال، كل عيد له مفاجآته وهداياه، لا بد أن تتنوع قبل أن يمل الأطفال منها، ومن الثوابت أيضاً زيارة أسرة الشهيد مراد سيد، ابن خالتى، بطل الثغرة المغوار، الذى كتبت عن بطولته وزارة الدفاع كتاباً اسمه «الحصان الأبيض مراد سيد»، فهو ثانى اثنين من ديروط الحاصل على نجمة سيناء مع بطل كبريت العقيد/ إبراهيم عبدالتواب.

تصادف وجود ابن أخيه استشارى العظام سيد أحمد، ذهبنا إلى بعض أشقائه، ثم قبل السفر اصطحبت بعض أطفال الأسرة لأعرفهم على ابنته، هم يعرفون فقط اسم المدرسة التى باسمه، فرحوا بالفسحة وبمعرفة بعض التاريخ الجميل لأسرتنا، ذهبنا إلى كل من كان يصل أمى وتحبه ويحبها مثل ابن خالى المهندس بكر وزوجته وأولاده.

أبر البر كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى «أى يموت»، ذهبنا للغداء عند بعض الأصدقاء، واستقبلنا بعضهم، الصور هى العامل المشترك فى كل جلسة، حانت لحظة الوداع أصبح بيت أختى فجأة فارغاً بعد أن كان يضج بثلاثة أجيال متعاقبة تتحدث وتمزح وتضحك وتتناقش فى البيت، ما أجمل صلة الرحم، وبر الوالدين، وما أسوأ العقوق. خبرة حياتى كلها تقول: «أى إنسان يعق والديه أو يقطع رحمه فلا تأمل فيه خيراً مهما كانت طاعته، وأى إنسان يصل رحمه ويبر والديه فيه الخير حتى وإن كان قليل العبادات»، وخلصت أن أكثر عبادة تجلب الفقر هى العقوق، وأكثرها يجلب الغنى هو بر الوالدين وصلة الرحم.

سلام على أسرتى الصابرة الراضية، التى تحمَّلت من أجلى الكثير، ولم أستطع حتى اليوم أن أوفى بعض جميلهم الذى يطوق عنقى، سلام على الأبرار وأهل الصلة.

اقرأ أيضا للكاتب:

 

زر الذهاب إلى الأعلى