د. ناجح إبراهيم يكتب: الإكراه يلحق بالدول مثل الأفراد
كتب د. ناجح إبراهيم مقالا، ونسر فى جريدة المصرى اليوم تحت عنوان: الإكراه يلحق بالدول مثل الأفراد، وفى التالى نص المقال :
■ لقد كان من تمام رحمة الله تعالى بعباده أن رفع عنهم الحرج حال الضرورة، وعفا عنهم فيما استكرهوا عليه، لقول النبى «ص»: «إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، ولذلك أرست شريعة الإسلام قاعدة مفادها: «الضرورات تبيح المحظورات» لتجعل الإكراه والضرورة عذرا مقبولاٍ، يمنع من لحوق الذم والعقاب بصاحبه إذا اضطر إلى إتيان محرم.
■ وإذا كانت الشريعة قد اعتبرت حالة الإكراه في حق الأفراد، فاعتبارها لإكراه الدول من باب أولى، فالفرد مهما بلغت درجة الإكراه الواقعة عليه فهو لا يحمل عبء غيره، أما الدول فتحمل على عاتقها مصائر ملايين البشر، وإن جاز للفرد أن يأخذ بالعزيمة، ويحتسب الأجر فيما يلقاه من ضرر، فلا يستساغ مثل هذا في حق الدول، إذ يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، ويسع الفرد والجماعة ما لا يسع الدولة.
■ إن البعض لا يتصور وقوع حالة الإكراه في حق الدول، ويظن ذلك مقصورا على الأفراد فحسب، وصحيح أن كتب الفقه والأصول أفاضت في الحديث عن إكراه الفرد وشروطه وصوره وأحكامه، ولم تتحدث عن إكراه الدول، مع أن إكراه الدول متصور في الشرع والواقع من باب أولى، فإذا كان الإسلام قد أباح للفرد المضطر أكل الميتة وشرب الخمر- رغم حرمتهما- دفعا لما هو أعظم مفسدة من هلاك النفس والبدن، فكيف بالدولة إذا هددت بالقصف الجوى العنيف بأفتك أنواع القنابل الضخمة، وهددت بتدمير بنيتها التحتية المدنية والعسكرية، وبقتل الآلاف من أبناء شعبها، وهى لا تستطيع دفعا لكل ذلك، ألا يعد هذا إكراها أعظم بمراحل من إكراه الأفراد؟!.
■ إن الدول تكره تماما كما يكره الأفراد، وتتعرض أحيانا لحالات من الضرورة أشد وأقسى بكثير من تلك التي يتعرض لها الفرد، وتتعدد صور الإكراه الواقع على الدول في عصرنا هذا، كما تتدرج تلك الصور من حيث قسوتها وعنفها، فهناك الإكراه السياسى والاقتصادى والعسكرى.
■ وحقائق التاريخ قديما وحديثا هي أبلغ شاهد على حدوث الإكراه في حق الدول، فها هي دولة الإسلام الأولى على أرض المدينة تتعرض لصورة شرسة من صور الإكراه الملجئ، وذلك في غزوة الأحزاب، ويصورها القرآن أبلغ تصوير في قوله تعالى: «وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا».
■ ماذا يفعل النبى «ص» بحكمته المعهودة وبصيرته النافذة لحل تلك الأزمة ولمحاولة كسر هذا الطوق المضروب حول المدينة، لقد هم النبى «ص» أن يدفع لغطفان ثلث ثمار المدينة كل عام، على أن تنسحب من هذا التحالف، ليس لعام واحد فقط، بل كل عام فيما يشبه الجزية المفروضة، وليس مقابل رد جميع الأحزاب، بل فقط لمحاولة تحييد جزء منهم، وخلخلة هذا التجمع المعادى لدولة الإسلام، إنها ملامح واضحة لا تخطئها العين لحالة الإكراه الملجئ ضد دولة من الدول، وهكذا يعلمنا النبى «ص» درسا بليغا في فقه الموازنات وفى القياس الصحيح بين المصالح والمفاسد.
■ وفى العصر الحديث، قد تتعرض دولة من الدول لمثل ما تعرضت له دولة الإسلام من قبل، لكن بصور أخرى مستحدثة هي أشد تعقيدا وخفاءً من ذى قبل.
■ وفى الأمس القريب، تعرضت دولة اليابان لحالة قاسية من حالات الإكراه الملجئ جعلتها تتجرع السم، وتقبل على مضض أمورا ما كانت لتقبل بها لولا ذلك الإكراه، ففى الحرب العالمية الثانية قصفت مدن اليابان بالقنابل الذرية، وقتل في ظرف ساعات معدودة ما يزيد على أربعين ألف يابانى غير الجرحى والمعاقين، وهو ما حدا بالإمبراطور اليابانى أن يوقع، رغم أنفه، وثيقة الاستسلام دون قيد أو شرط، وتعهدت اليابان بالالتزام بكل ما تضمنته الوثيقة من بنود مجحفة يعرفها الجميع ولا مجال لبسطها.
■ إن الدول حين تتعرض لحالة الإكراه، وتئن تحت وطأة الضرورة تتغير حساباتها ويباح لها حينئذ مالا يباح في وقت آخر، وليس من المنطقى ولا من المعقول أن يحكم على تصرفات دولة تمر بحالة إكراه، كما يحكم على دولة في ظروفها الطبيعية، إن حالات الضرورة التي تمر بها الدول أحيانًا تضعها أمام خيارات أحلاها مر، وليس فيها خيار قادر على تحقيق المصالح الخالصة، فحينئذ لا يكون أمامها سوى أن توازن بين المصالح والمفاسد، وتقيس المضار والمنافع، فتسعى لتحقيق أعلى المصلحتين بتفويت أقلها، ودفع أكبر المفسدتين بارتكاب أخفهما.
■ وفى مثل تلك الحالة قد تضطر الدولة للقيام بمنكر أو إثم ظاهر، وحينئذ يلتبس الأمر على صاحب النظر القصير، والحكم العجول، فلا تقوى بصيرته على النفاذ من خلال تلك المخالفات الظاهرة، والمنكرات الجزئية لكى تدرك ما يختفى وراءها من دفع ما هو أعظم ضررًا وأعم مفسدة، وشريعة الإسلام لا تفرق متماثلين، كما لا تجمع بين متناقضين.
■ وقد لخص القرآن الكريم ضوابط الضرورة في كلمات قليلة، وذلك في قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
■ إن إخفاء أحكام الضرورة والإكراه، والامتناع عن ذكرها كى لا تكون ذريعة لبعض ضعاف النفوس، وضعاف الدين للتحلل من أوامر الشرع إنما يضر بالشريعة في المقام الأول، ويجعلها في صورة العاجز عن إيجاد حل لمثل هذه المعضلات التي تجرى على أرض الواقع، بل قد تتهم الشريعة بالقصور، وعدم الواقعية.