د. قاسم المحبشى يكتب: في معنى الاحتفال بتعاقب الأعوام (3من3)
نحن نعيش في زمن دائري، يكرر باستمرار ما قد جرى وكان منذ قديم الأزمان بمختلف الأنماط والصيغ والأشكال ودون أن نعي أن الزمان تاريخ، وأن التاريخ يسير من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، فمن العبث الحديث عن الاحتفال برأس السنة الهجرية أو الميلادية، فالأمر سيان! وطالما وقد عجزنا عن القبض على ممكنات التاريخ والسير في ركابه مثل سائر الأمم والشعوب والأقوام، فليس بمقدورنا منع غيرنا من التعبير عن أفراحهم كما يشتهون! ويجب أن نسأل أنفسنا السؤال البسيط ؟ ما هو الزمن، وكيف نعيه بوصفه تاريخا متغيرا باستمرار ؟.
إنه الزمن الذي ” يدمر كل شي
لا أحد بمأمن من الموت سوى الآلهة
الأرض تفنى.. كل شي إلى زوال
حتى الثقة بين الناس تذوى،
ويحل محلها عدم الثقة
الأصدقاء ينقلبون على الأصدقاء
والمدن على المدن
مع الزمن.. كل شي يتغير البهجة إلى مرارة
حتى البغضاء تتحول إلى حب”.
وكلمة “الزمن” باليونانية “كارونوس” هي اسم الإله الذي التهم اطفاله، وأوديب عند “سوفوكليس” هو الذي عبر عن تراجيديا الحياة والموت بهذه الكلمات الشجية. هذا الوعي الفطري بالطبيعة العابرة للحياة الانسانية والتغير والتبدل المستمر الذي يسري على الكون كله كان ولازال مبعث كل الأديان والفلسفات الكبرى.
فالخبرة اليومية بالولادة والحياة والموت، لا سيما سر الموت ورهبته، دفعت الإنسان إلى الاعتقاد في عالم سحري ملئ بالأرواح وطقوس الموتى.
كان الإنسان مدمجاً بالطبيعة وكانت الاسطورة هي الافق الممكن للتفكير والمعرفة والحياة, “فالأسطورة كانت النظام الفكري المتكامل الذي استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتوقه الأبدي للكشف عن الألغاز والغوامض والمشكلات التي يطرحها محيطه”.
والأمر المهم هنا ليس هو ماذا يقول الناس ويفعلون، ولماذا يقولون ما يقولونه ويفعلون ما يفعلونه؟ بل لماذا يعتقدون ويقولون ويفعلون ذلك؟ ومن ينجب يسمي ومن ينتج يجني ومن يبني يسكن ومن ينجز يحق له أن يسعد كما يحلو له.
أما العاجز فليس لديه خيارات غير الحسرة والندم على الزمن الذي ضاع دون أن يعلم كيف ضاع ولماذا؟.
ونحن كائنات تاريخية نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء! والتاريخ هو ما يصنعه البشر بأنفسهم ولا شيء يأتي إليه من خارجه ولا شيء يخرج منه، ولكنه يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدا! وفي العصور الفطرية القديمة كان أسلافنا يتدبرون حياته في سياقهم الطبيعي على نحو أكثر استقرارا مما نعيش نحن اليوم، إذ فقدنا الطبيعة الحانية ولم نتمكن من ترويض التاريخ الذي لا يمتلك لا قلب ولا عيون.
وتحضرني الذاكرة هنا والآن أننا حينما كنا نودع عاما هجريا مضى ونستقبل عاما هجريا أتى كان للاحتفال بقدوم العالم الهجري الجديد معاني ودلالات معبرة وجميلة، إذ يستعد الناس للاحتفال بلحظ الذروة بطرق وإشكال عديدة ويعبرون عن فرحتهم بالسنة الجديدة بصور ورموز شديدة الاتصال بحياتهم الطبيعة وعلاقتهم بربهم.
فعلى سبيل المثال كان مزارعو البن في كل أسرة يكلفون سيدة الأسرة ألأم بوضع سبع حبيبات من ثمار البن الناضجة المختارة بعناية لتضعها في وعاء الطبيخ وتطبخها مع العصيدة وجبة العشاء.
وكان جميع أفراد الأسرة ينتظرون تلك الوجبة بلهفة وفرح لاسيما الأطفال منهم ذكورا وإناثا، حيث يحتلقون حول قدح العصيدة وهم يتمتمون بدعاوى لله سبحانه وتعالى بان يرزقهم الحصول على العدد الوفير من حبات البن المخفية في العصيدة بوصفها تعبيرا رمزيا بالبشارة والحظ السعيد والرزق الحلال القادم، ومن حالفه الحظ في العثور على أكبر عدد من حبات البن يوصف بالبرك أو المبارك وتغمره مشاعر سعيدة، وعلى العكس يكون حال من لم يحالفه الحظ في الحصول على حبة بن واحدة.
وكان الأجداد والأباء يشجعون الاولاد على جلب أغصان شجرة البن الخضراء ووضعها في نوافذ المنازل وأسطحها وهم يرددون الاغنية التالية:
أدخلي يا خضراء واخرجي يا غبراء
ارحبي يا بشرى وأذهبي يا جرباء
اشرقي يا نجلاء وأغربي يا دبراء
مرحبا يا كحلي بعد تاك العمياء
يا هلا بكِ سهلا والجديدة أحلى
ربنا يرزقنا رزق دائم يبقى
وهكذا هو معنى الاحتفال في كل زمان ومكان ؛ الأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم حتى وأن بدوا أنهم يحتفلون بموتاهم
وسنة جديدة أفضل وكل عام وأنتم بخير وسلام.