الأفكار الحية لا تموت.. على طريق تأبين الفيلسوف
لا يموت المرء طالما هناك عقول وأفئدة حية ما برحت تتذكره وتعيد قراءة أفكاره برغبة واهتمام لعلها تجد فيها ما ينير طريقها بعد غيابه.
وها نحن غدا نحتفي بالمفكر اليمني العربي أبوبكر السقاف بعد أربعين يوما على رحيل جسده الفاني ولسان حالنا يقول: على هذه الأرض التي تضم رفاة أسلافنا… على هذه الأرض التي رويت بدماء شهدائنا .. وفي هذه الأرض التي سقيت بعرق جباه آباءنا .. مات الذي عاش دون أن يشك بان الفجر صالح لكل الأعمار، وأن الشمس تشرق كل يوم من جديد وأن الحرية تنتزع بارادة الأحرار ولا تمنح للعبيد.
حينما مات فكر بالولادة وكتب تلك العبارة: هنا غرست شجرة الحياة التي سوف تنمو وتزهر وتثمر بالألف الرجال والنساء الأحرار؛ أطباء ومهندسين وتجار وفلاسفة وعلماء ومعلمين ورجال دين وكتاب وصحفيين وسياسين ومثقفين وشعراء وفنانين وصيادلة وعمال وفلاحين وعسكريين ومن كل الاختصاصين، والأجيال هم وهن من تزهر بهم شجرة الحياة؛ حياة الأوطان ويزهرون على أغصانها بألف وجه ووجه من الجمال الفتان.
وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة! وحينما نتأمل محنة فيلسوف اليمن مع فيلسوف الأندلس ابن رشد نلاحظ أوجه الشبه بين الحاليين: ” كان ابن رشد ينظر إلى الكتب تحترق واحداً إثر الآخر ولا يحرك ساكنا، بل يقابل كل ذلك بصبر شديد، وفيما هو يتأمل تلك المشهدية القاسية بعمق يذهب فيه إلى مدى تأثيرها على المستقبل، كان أحد تلاميذه بالقرب منه يبكي وينتحب، لكن ابن رشد كان يربت على ظهر تلميذه الوفي ويخفف من هلعه وحزنه بقوله : «إذ كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكى كتبي المحروقة، فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير”.
وهكذا هم أصاحب الرؤى الكبرى، وحدهم من جعلوا لحياتهم معنى بعد وفاتهم؛ معنى يقاوم قساوة الحياة القاهرة وظلم السلطات الحاكمة.
وهذا هو الدرس الذي يجب أن نستلهمه من حياة وموت فيلسوف اليمن الكبير أبو بكر السقاف، لقد أدرك أن ضربات السيف تذهب أما ضربات القلم فهي آثار خالدة، فصب رحيق حياته في حروف من النور واستبدل ضجيجها كلمات لا تمحى، وأحل محل جسده الفاني أسلوباً يدل عليه وصوتاً يحمل اسمه، ومنح أسمه جسماً غير قابل للبلى والاهتراء، إذ إنه كتب ليس لمجرد الرغبة في الكتابة ، وإنما لينحت من المشاعر والأحاسيس والأفكار والكلمات جسم المجد الرفيع هذا.
وخير تكريم للذين مروا في درب الحياة العابرة من ذوي العقول المستنيرة لا يكمن في تقديس رماد قبورهم بل في جعل الشعلة التي اوقدوها ذات يوم متوهجة باستمرار. إذ “تقدم لنا ميتات بعض المثقفين الحقيقيين في مجتمعاتهم المحلية أمثولات جديرة بالتأمل والاعتبار بعد رحيل اجسادهم لاسيما الذين عانوا من عسف السلطات المهيمنة ، وعوملوا معاملة ظالمة نتيجة استقلال رأيهم ورفضهم الانصياع إلى ترسيمات سياسات الحقيقة المفروضة بالقوة والعنف.
وإذا كان الإنسان هو الكائن الثقافي الوحيد، فهذا لا يعني بأن الثقافة متساوية لدى جميع الناس، بل هناك تنوع لا حدود له يثري حياة الناس ويميزها بعضها عن البعض، إلى الحد الذي يمكن القول: أن لكل فرد سمات ثقافية خاصة، وللإنسان بطبيعته السوية استعداد وقابلية هائلة للتنوع والتغير في حركة حية ديناميكية وهذا هو ما افضى الى تباين اشكال الحياة واشكال فهم الحياة وصور التعبير عن الحياة وسبل الأخذ بالحياة والتعامل معها.
والثقافة في جوهرها الفعلي هي قدرة العارف على تحويل المعرفة إلى فعل وسلوك في عالم الممارسة الاجتماعية، لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية.
فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم.
فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم
وفي هذا تتعين صورة المثقف العضوي المثقف العارف الكلي بوصفه صوت من لا صوت لهم ، الملتزم نقد كل قوى الهيمنة وشروطها والدفاع عن القوى الضعيفة المهيمن عليها.
ولعلك تتذكر كتابات إدواراد سعيد في المثقف والسلطة وتمثيلات المثقف ، اذ عرف المثقف بأنه الشخص الذي لا يكف عن مناوشة كل سلطة هيمنة بما في ذلك سلطة الرأي العام وسلطة الثقافة ذاتها.
وتلك هي الصورة التي بقيت لنا من الأستاذ أبو بكر السقاف الذي فارق الحياة في منفاه الاختياري بموسكو بتاريخ ١٣ ديسمبر ٢٠٢٢ عن عمر يناهز التسعين عاما قضاه جله في التفكير والكتابة والتنوير والدفاع عن الإنسان والكرامة والحرية وغدا سوف يكون التأبين في أرض الكنانة التي تشبه أسماها حيث نهل الفتى القادم من اليمن السعيد بجهله وظلامه من معينها ذات يوما في منتصف خمسينات القرن الماضي.
وفي منتصف خمسينيات القرن الماضي، وتحديدًا في العام 1956، تنادى الطلاب اليمنيون في القاهرة لتأسيس رابطة للطلاب اليمنيين.
عقد طلاب القاهرة مؤتمرهم العام الأول، وهي أول رابطة طلابية خارج اليمن. انتُخب أبو بكر السقاف سكرتيرًا عامًّا للمؤتمر العام للطلاب في القاهرة.
احتفى السقاف بالعلم، ويصفه زملاؤه بأنه الطالب الشغوف بالاطلاع والمعرفة، ومن رواد دور العلم والمنتديات، ودور النشر والمكتبات.
كان شديد الحذر والتمييز بين السياسة اليومية، وبين التفكير العميق، وكان – يرحمه الله – شديد الوفاء لأصدقائه وزملائه” ( ينظر، عبدالباري طاهر، أبو بكر السقاف مفكر الأمة المدافع عن الحريات والحقوق، موقع ساحة التحرير ، ٢١ ديسمبر ٢٠٢٢).
ولد في لحج ودرس في مصر وعمل في صنعاء ومات في موسكو، وفكر وكتب في ما ينفع الناس ويوقظهم من سباتهم لروحه السلام والطمأنينة.
مات الذي قال” من كتب لُبج! وذهب من أمر وأشرف على تعذيبه وتاه من كفّره، وسخّر من طريقة تفكيره ونظرته إلى الحياة ولسنا في بداية التاريخ ولا في نهايته بل لازلنا في خضمه.
وتلك البصمة الدامية التي وضعها العسف والطغيان على جسد الفيلسوف المتوحد أبوبكر السقاف لا يمحيها رحيله بل ستظل شاهد حال مآل لما حل باليمن السعيد من خراب ودمار بعدها مباشرة والأثر دليل على المؤثر.
كتب عبدالكريم الرازحي ” بعد حرب 94 اختفت أحزاب المعارضة وتلاشت كما لو إنها لم تكن موجودة وبعضها التحقت بالنظام وبالحزب الحاكم ولم يبق سوى بضعة أصوات أبرزها وأشجعها صوت الدكتور أبوبكر السقاف في صحيفة الأيام .
كان النظام حينها قد توحش واستشرس ومما فاقم من توحشه واستشراسه هو أن الحزب الأكبر والأقوى في الشارع صار بعد مشاركته في الحرب والنهب شريكا في السلطة وفي الثروة وكذا شريكا في القمع.
وكانت المقولة التي أطلقها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر : ( من كتب يُلْبَجْ ) قد انتشرت واشتهرت وغدت عنوانا لمرحلة مابعد الحرب ومابعد النهب.
أيامها كان الخوف قد استشرى كالوباء وغدا كالطاعون وكانت التهم تُكال بالمكيال، وكل صوت يرتفع يتهمون صاحبه بأنه انفصالي ضدالوحدة والديمقراطية و”حقوق الأسنان” ذلك لأن أسنان المنتصرين في الحرب كانت قدكبرت وبرزت وغدت اشبه بأسنان مصاصي الدماء وصارلها حقوق ثابته ولها الحق في أن تنهب وتنهش وتفترس كل من يقف في وجهها.
كان الدكتور أبوبكر السقاف جمهوريا أكثر من كل الجمهوريين ووحدويا أكثر من كل الوحدويين لكنه كان يكتب بجرأة كبيرة وبشجاعة نادرة وفي زمن صعب ضد أولئك الذين استباحوا أراضي الجنوب وتناهبوا خيراته وثرواته باسم الوحدة وبتهمة أنهم كفرة وانفصاليون .
كانوا بعد اختطافه من الشارع قد عصبوا على عينيه وضربوه بقسوة شديدة وبحقد أشد وبنذالة ثم ألقوا به في الشارع وكأنه كيس زبالة”.