عاطف عبد الغنى يكتب: الهند بلد لم تعد تركب الأفيال
(1)
الهند بلاد تركب الأفيال.. هذه التصورات الذهنية لدى كثيرين منا نحن المصريين، لم يعد لها وجود فى حاضر الهنود الأسيويين.. جمهورية الهند الآن بلاد تركب الصاروخ وتصعد به إلى مصاف الدول الكبرى، والأقطاب المؤثرة فى صناعة السياسة العالمية، والقرارات الدولية.
واكتب الآتى فى مناسبة الزيارة التى قام بها الرئيس السيسى لمشاركة الشعب والقيادة فى الهند الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية، واسمحوا لى أن أصف هذه الزيارة بـ “التاريخية” وهى بالفعل كذلك، لأنها مفصلية فى العلاقات المصرية الهندية، وجاءت فى ميعادها تماما، لكلا البلدين، حيث تتغير الجغرافيا السياسية في غرب آسيا، فى ذات الوقت الذى تتغير فيه توازنات المصالح، فى علاقات دول الشرق الأوسط بالغرب والشرق.
لكن قبل أن ننظر على الموضع الذى تقف فيه أقدامنا فى علاقاتنا المصرية، العربية، بالهند، لابد أن نعرف، ما طرأ من تغيرات فى علاقات الهند بإسرائيل، وهذا متغير غاية فى الأهمية إذا استوعبناه جيدا نفهم على هديه الحاضر، ونستشرف مستقبل علاقاتنا بالهند.
وأصارحكم القول أنه أهمنى، قدر ما أثارنى، خلال السنوات القليلة الماضية، هذا النمو المطرد فى العلاقات الإسرائيلية الهندية، وأشعر بالحزن وأنا أتابع نشاط الدبلوماسية الإسرائيلية، الموجه نحو الهند، وخاصة خلال فترات حكم نتنياهو، ووزير خارجيته أفيجدور ليبرمان، اللذان قادا معا بنشاط ملحوظ الانفتاح على دول العالم شرقا وغربا لمد علاقات إسرائيل بأنحاء المعمورة، وتمتينها.
ومن غزو قلب أفريقيا واختراقها سياسيا، واقتصاديا، ودبلوماسيا، وصولا إلى الدول المنسية (بالنسبة لإسرائيل) فى أمريكا اللاتينة، والهند، أما الصين فقد تركوها لرجال الأعمال اليهود يتسللون إليها ويأسسوا لأدور مهمة سوف يلعبونها فى أكبر اقتصاد عالمى، القطب جاء ليقاسم أمريكا وأوروبا وروسيا، السيطرة العالمية.
(2)
نعود إلى الهند، وقد رأيت أنه لكى نحسن قراءة ما بين سطور زيارة الرئيس السيسى إلى الهند، لابد أن نفك أولا شفرة العلاقة بين الهند وإسرائيل.
فى 30 يناير الحالى 2023 (اكتب المقال يوم 28 منه) تكمل العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الهند وإسرائيل 31 عامًا، فقد افتتحت إسرائيل سفارتها في نيو دلهي في الأول من فبراير عام 1992، وبعدها بشهرين ونصف الشهر (15مايو من نفس العام 1992) افتتحت الهند سفارتها في تل أبيب.
وفى العام الماضى عندما حلت ذكرى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، احتفلت الهند، وإسرائيل بالمناسبة، وتبادل نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق، ونظيره الهندى ناريندرا مودي التهاني، ولم تسمح الحكومتان لبعض الأزمات الصغيرة فى إفساد المناسبة.
والأزمات الصغيرة والتى ألقت بظلالها الرمادية على مشاعر الشعب الهندى تجاه إسرائيل كان قد فجرها إعلام الغرب بالأساس، حين كشف عن بيع إسرائيل لبرنامج التجسس الأليكترونى “بيجاسوس” للحكومة الهندية، ضمن صفقة أسلحة متطورة، وبرنامج التجسس والمراقبة صنعته شركة NSO الإسرائيلية، وباعته لعدد من الحكومات، والمؤسسات على مستوى العالم، وفيما يخص الهند قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن الصفقة السرية لتكنولوجيا المراقبة سوف تستخدم ضد المواطنين الهنود، وهو الأمر الذى نفته بالطبع الحكومة الهندية، لكن
ما سبق مجرد مشهد ثانوى فى مسلسل العلاقات السياسية، وقد سبقته ولحقته مشاهد عديدة لابد أن نتوقف عندها قليلا لنستوعب تطور العلاقات بين البلدين.
(3)
قبل 73 عاما اعترفت الهند بإسرائيل (فى عام 1950) لكن تطبيع العلاقات على المستوى الرسمى، بين البلدين، استغرق أربعة عقود أخرى، وجاء في أعقاب حرب الخليج الأولى (1991)، وما تلاها من تحولات كبرى فى المعادلات السياسية في غرب آسيا، وفى أعقاب همود الدعم العربي للقضية الفلسطينية، بسبب دعم منظمة التحرير الفلسطينية لغزو العراق للكويت، وتفكك الاتحاد السوفيتي، الذي كان حتى ذلك الحين المورد الرئيسى والأول للأسلحة والمعدات العسكرية للهند، وبسقوطه شرعت الحكومة الهندية تبحث عن مصادر تسليح أخرى، ومنها إسرائيل.
ومنذ عام 1992 توجهت الهند إلى إسرائيل لعقد صفقات التسليح، وجر هذا إلى التعاون في مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا والزراعة، وهى مجالات تفوقت فيها البلدين فى العقود الأخيرة.
لكن فى ذات الوقت ظلت الهند متحفظة بشأن علاقاتها المعلنة بإسرائيل، فى محاولة منها لخلق حالة من التوازن بين هذه العلاقات، وعلاقاتها مع العرب، من حيث دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية، واعتمادها على بترول العالم العربي، وعدم إثارة المشاعر المؤيدة للفلسطينيين بين أوساط المواطنين الهنود المسلمين.
تطور أخر فى العلاقات بين البلدين، حدث مع تولى الحكم فى الهند، حزب التجمع الوطني الديمقراطي، تحت رئاسة رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجبايي، رئيس وزراء الهند ثلاث مرات، الأولى لفترة وجيزة من 13 يوما في عام 1996، ثم ولاية ثانية مدة 13 شهرا بين 1998-1999 على رأس حكومة ائتلافية جديدة، التحالف الديمقراطي الوطني، ومنتهيا بخمس سنوات من 19 مارس 1998 حتى 19 مايو 2004، وآية هذا التطور فى العلاقات، زيارة عدد من الوزراء الهنود لإسرائيل بداية من العام 2000، وتشكيل لجنة مشتركة من البلدين لمكافحة الإرهاب، ثم زيارة آريل شارون للهند عام 2003، ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي يفعلها.
وبعد 14 سنة من زيارة شارون، رد رئيس وزراء الهند (الحالى) ناريندرا مودي الزيارة، وكان ذلك في عام 2017 ولأنها الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس وزراء هندي للدولة العبرية، فقد حرصت الأخيرة أن تحتفى بالضيف، أيما احتفاء، وأن تروج للزيارة بكثافة فى الإعلام العالمى، لتبعث رسائل فى اتجاهات عديدة، تؤكد من خلالها تطور ونمو العلاقات بين البلدين على مدار ربع قرن، فتشجع دول أخرى على أن تحذو حذو الهند.
وفى 2018 هبطت طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلى “الداهية” نتنياهو فى مطار نيودلهى، فى زيارة يستثمر فيها رغبة رئيس وزراء الهند فى جذب إسرائيل نحو بلاده، وأكدت تقارير هندية أن ناريندرا مودي لعب فى هذا التقارب مع إسرائيل كدولة قوية، على ما تشهده تطور العلاقات العربية مع إسرائيل، وعقد الاتفاقات الإبراهيمية (عام 2020) وما اقترن بها من تطبيع علاقات الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان، والمغرب، بإسرائيل، وبالتواز جاء تعزيز علاقات الهند مع الإمارات والسعودية، وبناء على ما سبق، أصبحت نيودلهي الآن أكثر ثقة بشأن علاقاتها الرئيسية في غرب آسيا أكثر من أي وقت آخر.
(4)
وفى 30 يناير 2022 لما حلت الذكرى الـ30 للعلاقات الهندية الإسرائيلية، خاطب رئيس الوزراء الإسرائيلى نفتالى بينيت “كل شعب الهند” يزف له بشرى الشراكة الرائعة، والاتصال الثقافي العميق والتعاون الاقتصادي والعسكري بين بلاده والهند، واصفا فرص التعاون بينهما بـ “اللانهائية”.
وفى المقابل رد نظيره الهندى “مودي” مثمنا أهداف جديدة تتيح للبلدين المضي قدمًا في العلاقة، مذكّرا بالجاليات اليهودية في الهند، التي عاشت هناك دون تمييز لعدة قرون (حسب خطابه).
(5)
وما سبق هو شرح مختصر، لتطور العلاقة بين الهند وإسرائيل، خلال 30 عاما، مع الوضع فى الاعتبار أن الهند مضت فى هذه العلاقة تسير على حبل مشدود بين إسرائيل والعرب، أو بين علاقاتها التاريخية فى دعم قضية العرب الرئيسية، فلسطين وحبها الجديد لإسرائيل، حسب وصف أحد الكتّاب الهنود.
.. وللكلام بقية فانتظرونا.