د. ناجح إبراهيم يكتب: يوميات عيادتي (24) من فضلك .. اخدعني
كتب د. ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان: “من فضلك .. اخدعني” وتم نشره في جريدة الشروق وهذا هو نص المقال:
• من عادتي أن أحصر الأرقام التي هاتفتني ولم أرد عليها وأطلبها , جاءني صوت أجش قلت له : تحت أمرك قال : كنا نحفر في أرضنا الزراعية فخرج لنا كنز من الآثار معظمها من الذهب , وأنت أولي الناس بشرائه , قلت له : وهل تعرفونني ؟قالوا : ناس معرفة دلننا عليك , قلت له :
– أنا رجل بسيط وعادي جداً ولا أستطيع سوى شراء فرخة أو بطة وليس كيلو جرامات من الذهب , تصرف في هذا الذهب كما تشاء.
قال: لا , فقد بخسه التجار يريدون شراء الجرام بـ 300 جنيه ,قلت له : أنت لم تتعب في شيء , يكفي أنك ستحصل علي عدة ملايين دون تعب , فأخذ يحاورني ويداورني وهو لا يعرف اسمي.
فحسمت الأمر معه قائلاً : يا بني هذه اللعبة بنفس الكلمات والسيناريو والإخراج منذ ثلاثين عاماً لم تغيروا فيها حرفاً , سمعتها من قبل 30 سنة , وتتكرر كل عام تقريباً معي , وفي كل مرة إما في المنيا أو الفيوم أو بني سويف , يا بني غير السيناريو , أو الحوار أو الإخراج مرة واحدة .
• أزمة النصاب المصري أنه مقلد حتى في النصب والتزوير , لا يكلف نفسه حتى تطوير النصب والاحتيال ورغم ذلك ينجح في النصب علي الكثيرين .
• حالات النصب والاحتيال في المجتمع كثيرة , وكلما زاد الفقر وضعف الاقتصاد وغلت الأسعار وقلت التقوى وغابت الهداية من القلوب وتواري الضمير وغاب المربون الصالحون كلما كثر النصب والاحتيال .
• والغريب أن المصريين يلدغون من جحر النصب الواحد مئات المرات , فهناك “مستريح” في كل بلد يجمع الملايين ثم يهرب بعد ذلك تاركاً الآلاف يندبون حظهم العاثر بعد ضياع تحويشة العمر .
• أكثر المصريين لا يحبون من يصارحهم بالحقيقة ويجرون وراء الكسب السريع , هناك آلاف نصبوا علي المصريين في موضوع “فيزا” السفر للخارج , وآلاف نصبوا عليهم واستلبوا أموالهم بحجة تسهيل دخولهم بعض الكليات السيادية , وضاعت الأموال , وهم لا يستطيعون الشكوى لأنهم بلا سند ولا دليل.
• من يصدق أن مستريح ” الأقصر” يجمع من الناس قرابة ملياري جنيه حتى أن بعض أهل القرى باع كل ما يملك من بقر وجاموس وأراضي وسيارات وأعطاها كلها للمستريح , فذلت هذه الأسر بعد عز , وفقدت كل ما تملك وأصبحت الآن في كرب شديد .
• أعرف أسراً ضاعت كل مدخراتها عند عدد من مستريحي الإسكندرية الذين يتعاقبون علي النصب علي البسطاء,كل عامين تنشق الأرض عنهم ليأكلوا أموال الناس بالباطل , ولكن الغريب أن هذا الأمر يأتي طواعية من تلقاء الناس , بل يذهب الناس إلي هؤلاء النصابين بأنفسهم وكأنهم يلحون عليهم ,” نحن بحاجة أن تنصبوا علينا”.
• عاشرت كثيراً من المصريين فوجدت لديهم استعداداً فطرياً أن يُخدعوا , وأتذكر ساعتها كلمة العبقري العظيم الفاروق عمر بن الخطاب ” لست بالخب ولا الخب يخدعني” تأملت هذه العبارة الرائعة من فيلسوف كل العصور الفاروق عمر فوجدت أنه يصف الشخصية المثالية المطلوبة , فلا هو ماكر ولئيم , ولا الماكر يخدعه .
• هل من المعقول أن يكون هناك في كل محافظة نصاب كبير” مستريح ” مثل الذي ظهر في المحلة وسرق 40 مليوناً , والخانكة وسرق 70 مليوناً , المرج وكان يتلقي في اليوم مليون جنيها ليعطي أرباحها وسرقها جميعاً , الجيزة وجمع 20 مليوناً , البحيرة وسرق نصف مليار , وطنطا وسرق 600 مليوناً , أما مستريح الموظفين بمدينة نصر فسرق مليار جنيها , وفي الإسكندرية ظهر عدة مستريحين أحدهم سرق 600 مليوناً , ودخلت النساء سباق النصب وظهرت عدة مستريحات “مساواة”.
• والأغرب في الأمر أنك تجد النصاب أحياناً حاصل علي دبلوم أو إعدادية وينصب علي حاصلين علي ماجستير ودكتوراة .
• حكي لي صديقي الحاصل علي الدكتوراة في الطب من الدانمارك أن عاملاً في المستشفي الخاص الذي يعمل به نصب عليه وعلي عشرات الأطباء الكبار مثله,وقص علي َّ كيف ينسج شباكه حول فريسته بطريقة عبقرية ويشعرك بأنه أوفي لك من ابنك وزوجتك , ويظل دقيقاً في دفع الأرباح لعام أو عامين لتجلب له المزيد من الزبائن حتى إذا حصل هذا العامل بالمستشفي علي المبلغ الكبير الذي يهدف إليه فر ولم يجدوا له أثراً , والغريب أنهم لم يأخذوا عليه أي مستند , ويخرج براءة في المحاكم , ثم يعيش في بلد آخر سعيداً بما حصله من هؤلاء ليبدأ جولات أخرى .
• لقد خلصت من حياتي أن الذي يقول الحقيقة والصدق مع الناس في مصر غير محبوب وغير مرغوب فيه , أما الذي يخدع الناس وينصب عليهم فهؤلاء تجد الآلاف يقبلون عليهم ويسمعون لكلامهم .
• وهذا من عجائب المجتمع المصري , وقد لخص العبقري عمر بن الخطاب أزمة مجتمعاتنا في كلمته الرائعة ” اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز التقي ” .