في السويس شاهدنا أم الدنيا في أبها صورها
سردية يكتبها: د. قاسم المحبشى
من أي الأبواب ينفتح المشهد؟ ومن أي النوافذ يمكن الأطلال على هذه الواحة الوافرة الظلال؟ ومن أي الأسوار الشاهقة يمكن مقاربة المعنى في أم الدنيا حيث يتلفح التاريخ بالأسطورة ويمتزج الحاضر بالماضي وتتعايش الأعماق مع الأفاق.
ثمة أشياء واشياء خفية تشدني إلى مواطن الحضارات النهرية والبحرية واولها الحضارة المصرية الراسخة في أعماق التاريخ، وحضارة بلاد الرافدين والكنعانيين، وحضارات الهند والصين واليونان وروما.
ربما كان ذلك الانشداد الآسر للحضارات التليدة بحافز تخصصي في فلسفة التاريخ والحضارة ودوافع كثيرة أخرى لا أعلمها! إذ اشتغلت ولازالت منشغلا في مسيرة المغامرة الإنسانية الحضارية منذ فجر التاريخ البشري العام. وقد سنحت لي الفرصة لزيارة حضارة بلاد الرافدين، وشاهدت اثارها التاريخية العظيمة ( أطلال حدائق بابل المعلقة وثور أشور المجنح وأسد بابل المهيب ورموز تدمر في الشام والبتراء في الأردن.
وحينما زرت مصر لأول مرة وأنا في طريقي إلى المغرب العربي بغرض التفرغ العلمي بجامعة سيدي محمد عبدالله بفاس.
مررت في أم الدنيا التي اعرفها قبل أن تعرفني؛ عرفتها من كتب التاريخ والحضارة. مِصر ، هبة النيل، أم الدُنيا، أرض الكنانة ؛ تلك الكلمة المكتوبة على أجنحة المسلات العملاقة منذ أقدم الأزمنة، تلك البلاد الباذخة بالدلالات والأخلية التي ينثر النطق بها كنانة شاملة من الخيال والرهبة والجلال والمحبة؛ أم الدنيا، الزاخرة بالرموز والمعاني الخالدة: إيزيس أمون، رمسيس حورس، ابو الهول أهرامات الجيزة، اخناتون، نفرتيتي، كليوباترا، ارخميدس، هيباتيا، والأنبياء موسى ويوسف وهارون وعزيز مصر، وزليخا، وافلوطين وعمر ابن العاص، ونابليون، وحجر رشيد، ومحمد علي باشا، والأزهر الشريف وسعد زغلول وأحمد عرابي وطه حسين والعقاد وأم كلثوم واحمد شوقي وأحمد زويل، ونجيب محفوظ، والعندليب الأسمر ورياض السنباطي وهدى شعراوي وعلي عبدالرزاق وغيرهم من الرموز والنجوم المتلألأة في ليل تاريخ الشرق الطويل الذين يصعب حصرها بهذه العجالة.
لقد كانت مصر بالنسبة لي حلم الطفولة، عرفتها أول ما عرفتها عبر السينما والتلفزيون، عبر المسلسلات والأفلام ، ثم من خلال قرأتي للرويات الصادرة من ادباءها ثم عبر كتب الفلاسفة والمفكرين المصريين الذين اضاءوا سماء الفكر العربي الحديث والمعاصر بنتاجهم الفكري والثقافي المتواصل. عرفت لهجتاتها ، واماكنها، من كتاب السر وروايات بين القصرين والحرافيش، وعمارة يعقوبيان، وعزازيل وعبقرية المكان وكتاب فجر الضمير الإنساني ل هنري باستيد وتكونت لي صورة متخيلة عن القاهرة والجيزة والصعيد والإسكندرية والزقازيق وسينأ، وقناة السويس وجبل المقطم والفسطاس وباب زويل والعتبة وقلعة صلاح الدين وشارع المعز وزينب والحسين وكل شيء في مصر لديه تاريخ وذاكرة.
.. فمن أي الأبواب ينفتح المشهد ومن أي النوافذ يمكن الإطلال على هذه الواحة الأفريقية العربية المترامية الأطراف والوارفة الظلال ؟ ومن أي الأسوار يمكن تسلق قلعة التاريخ والحضارة الإنسانية الراسخة العمق في قلب الأرض؟.
اقرأ أيضا:
-
د. قاسم المحبشى يكتب: بين علم النفس والفلسفة.. بقايا تجربة
-
المنشآت الفندقية للبحر الأحمر: وضح السياحة المصرية مطمئن
وكيف يمكن فك شفرات رموزها الصامتة؟ حينما تكون في مصر يجب عليك أن تجمع قواك العقلية والنفسية والجسدية كلها أن أردت التكيف مع إيقاعها الزاخرة بالدينامية الفاعلة. في قناة السويس مفتاح بوابة البحر والسماء درة شاهدت أم الدنيا في كامل آلقها وجمالها؛ مدينة مفعمة بالحب والتسامح وسعة الأفق والنشاط الإبداعي المفعم بروح الاستشراف والأمل. مدينة لا تنام تشع بالأنوار ليلا نهارا إذ هي مثل أسمها القناة التي تمد جسد العالم بالزاد والعتاد إذ تعد أهم قنوات التجارة العالمية عبر التاريخ. في قناة السويس تتمنى أن لا يأتيك النوم فكل شيء هناك جميل وحميم ومبهج.
إنها عبقرية المكان وذاكرة الزمان. والجغرافيا تحضر بطرق شتى لكن التاريخ هو ذاكرة المكان والزمان. وفِي مصر فقط يمكن رؤية ذلك العناق الخالد بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الناس والوطن بين الخاص والعام.
بين المواطنين والوطن بين البحار والمدن في شمر الشيخ صعدنا السماء بالمنطاد وفي السويس دخلنا قبة السماء في المركز الاستكشافي الرائع في السويس صعدنا بلأسايير حتى الدور الأخير بالمركز المصمم على طريقة هندسة ما بعد الحداثة ودخلنا في قاعة خافتة الإضاءة على شكل قبة، أغلقنا التليفونات اغلاقا تماما وأطفئت الأنوار فإذا بنا تشعر بأننا نتحرك بين النجوم والكواكب.
كانت تجربة مثيرة وممتعة بصحبة نخبة متميزة من الزملاء والزميلات المشاركين في المؤتمر الأول ( التغيرات البيئية ومستقبل الإنسان العربي؛ قراءة عابرة للتخصصات، المنعقد في جامعة السويس،و الذي تشرفت بإدارة جلسته الثالثة.
مؤتمر على درجة عالية من الجودة والأهمية. شارك فيه وحضره نخبة من الأكاديميين والأكاديميات والمهتمين من مصر ومختلف الدول العربية وقدمت فيه أبحاث ودراسات من مختلف التخصصات العلمية.
كانت فرصة طيبة لزيارة مدينة قناة السويس الحانية لأول مرة في حياتي وهي المدنية التي يحمل أسمها ألف دلالة ومعنى منذ أقدم العصور.
ولما كانت من الطرف الجنوبي للبحر الأحمر حيث يقع باب المندب فقد احسست بالفة آسرة مع السويس التي تشبه مدينتي الحبيبة عدن في زمان مجدها حينما كان تعد ثاني ميناء في العالم .
ثلاثة أيام بلياليها امضيناها في مؤتمر السويس الدولي الأول الذي نظمته الدكتور سهر الفحام مدير مؤسسة المدار للتدريب والتنمية ورئيس المؤتمر مع الأستاذ الدكتور عبدالحليم بلواهيم رئيس مخبر الفلسفة في جامعة مستغنام الجزائرية العريقة.
كان برنامجا مزحوما جدا بالجلسات والفقرات المصاحبة إذ زرنا في صباح اليوم الأول المركز الاستكشافي للمواهب والملكات الإبداعية واطلعتنا مديرته الرائعة الأستاذة عيوشة على نشاطاته المتنوعة وهو منشأة علمية تعليمية وبحثية بموقع وتصميم معمارى متميز على مساحة 4 آلاف متر، في الكورنيش القديم حي السويس مكون من 4 طوابق تضم معامل اللغات والكمبيوتر وأقسام نوادى للعلوم والفنون ومتحف الأحياء المائية، وقبة سماوية، وقاعة محاكاة لعصور ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى مكتبة نموذجية ورقية وإلكترونية.
يهدف المركز إلى تنمية القدرة الإبداعية والابتكارية لدى الطلاب وتعدهم ليكونوا علماء المستقبل، كما يهدف إلى تبسيط التطبيقات العلمية بعرض وسائل إيضاحية ومعروضات ونماذج تعليمية وربط الدراسة النظرية بالدراسة التطبيقية العملية فى مجموعات عمل حقيقية يتبادل داخلها الطلاب المعلومات، ويبحثون حل المشكلات ووضع الحلول للتحديات وتطبيقها فى خدمة البيئة والمجتمع؛ لتحقيق رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030.
وفي المساء شهدنا أمسية إبداعية فنية رائعة لبراعم مركز من ذوي الاحتياجات الخاصة.
كانت ليلة بهيجة مفعمة بالروح السويسية البحرية الطيبة إذ شاهدنها عروض تمثيلية لعمل البحارة واستمعنا إلى أغاني السمسمية البحرية الجميلة ورقصات لذوي الحاجات الخاصة من أبدع ما يكون.
ومن غير أمها يمكنه أن يفكر بأحوالها؟!.. فحينما تفكر مصر الكنانة بالبيئة وأحوالها فهذا له ألف دلالة ومعنى؛ إنها أم الدنيا التي يهمها صحة وعافية بنتها.
فالبئية هي الوسط الحيوي التي يعيش فيها الإنسان والكائنات الحية الأخرى في الكوكب الأرضي والسياق الذي يحيط بالحياة من جميع الجهات.
فكيف يمكن أن تكون حياة الكائنات بدون سلامتهاوصحتها وعافيتها؟ ذلك هو السؤال الذي استدعى حضورنا في قناة السويس على مدار. ثلاثة أيام ؟ وهو سؤال مشترك يعني كل إنسان عاقل يعيش في هذا الدنيا.
كان اختيار السويس مكانًا لعقد المؤتمر الدولي الأول للتغيرات البيئية ومستقبل الإنسان العربي أختيارا موفقا جدا ولكن ثلاثة أيام لاتكفي لمن يعرف دور البحر في التاريخ.
حرصت على النهوض مبكرا للسير على شاطىء السويس الجميل واغتنمت لحظة تأمل البحر والتاريخ، ومن البحر استلهم الشاعر الكاريبي ديريك والكوت قصيدته ( البحر والتاريخ) فالبحر هو محور التاريخ حيث يحتفظ بالذكريات في قاعه كما يحتفظ بجثث ضحاياه وسفنهم ومقتنياتهم.
ومن الأخطاء الفادحة في الدراسات التاريخية التقليدية أن الباحثين في التاريخ والآثار انشغلوا في تدوين ما حدث ويحدث في اليابسة وكل ما هو متاح للرؤية والمشاهدة بينما ظل التاريخ الحقيقي محتجبا عنهم في اعماق البحار والمحطات التي تشكل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية مجازنا بينما هي في حقيقتها كرة مائية أو بحرية وصف أقرب إلى الحقيقة.
هذا الباراديم في رؤية التاريخ والعالم من جديد هو الذي لمحته وانا بصدد كتابة ورقة بحثية في مدارات ما بعد الكولونيالية. إنه البحر الذي يستحق القراءة منذ أقدم العصور ولا زال هو من يشكل ويعيد تشكيل العالم بمختلف الصور والأنحاء وكل دراسة لإحداث ووقائع التاريخ الأرضية تظل قاصرة بدون أن تشتمل على فهم دور البحر وتاثيره المباشر وغير المباشر في حياة الناس الترابية.
فمتى يستعيد العرب تاريخ البحر الأحمر ؟!وهنا الدولة العربية الأكبر سكان قرابة ١٢٠ مليون نسمة تنمو وتزدهر وتسير بثبات صوب المستقبل رغم الحصار الشديد الذي يطوقها من كل حب وصوب.
أنها أم الدنيا كانت وسارت ودامت وستظل. وللحديث بقية.