عاطف عبد الغنى يكتب: التوبة قبل التعميد
يقول الله تعالى فى قرآنه: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين” (البقرة 251).
وأتصور أن العوام يترجمون جانبا من معانى هذه الآية الحكيمة بقولهم: “ربك بيسلط أبدان على أبدان”، وسيرا على خطى الحكمة الشعبية، يمكن أن نقول مثلا إن ميزان الأرض يختل إذا استفرد بالقوة قطب واحد، الولايات المتحدة مثلا، يأتى الاتحاد السوفيتى، فينابزها القوة، فلما تنجح الأولى فى الدفع بالاتحاد السوفيتى للتفكك، سريعا ما تبزغ قوة الصين، ويعود السوفيت للنهوض مجددا عبر الاتحاد الروسى، وهكذا.
وما يجوز على الأمم والدول يجوز أيضا على الأفراد، فلا يردع الفتوة إلا “نبوت” فتوة مثله، ولا يكشف خيانة الخائن إلا صاحب مصلحة، أو صاحب ضمير يقظ، وهكذا تمضى الحياة فى تفاعل موزون حتى لا تصل إلى حد الفساد الذى يدمرها، وهذا فضل الله على العالمين.
التنظير السابق يمكن أن نسقطه أيضا على صراعات “النشطاء” الذين بزغ نجمهم، فيما أُطلق عليه ثورات الربيع العربى، وفى حالتنا المصرية لم ولن تنقطع الحروب الكلامية، بين من أطلقنا عليهم ناشطين فى ثورة 25 يناير 2011، وقلت وأقول وأؤكد أن 25 يناير كانت مثل جبل الجليد الطافى على وجه الماء، الجزء المختفى منه تحت الماء أكبر بكثير من الجزء الظاهر، وكذلك هى، فإذا قلنا إنها ثورة فقد خرج فيها الشباب المصرى البرىء، فى عدد من الميادين المصرية، يعبّر عن حلمه بحياة أكثر حرية، وفرصة أكثر عدلا، وعيشة أكثر كرامة، وهؤلاء هم الأبرياء، تمييزا لهم عن الخونة والعملاء والأيدلوجست (أصحاب الأيديولجيات) الذين ركبوا الثورة، ونصبّوا من أنفسهم قواد، وأثاروا الجدل واللغط، وأكثرهم يحمل فى رأسه أفكارا عفنة، مثل أن يفسر الحرية بالإباحة المطلقة للغريزة، والجسد، أو الإساءة إلى الأديان، ومنهم دعا ضمنيا إلى اتباع أحد معسكرين، اليمين الليبرالي الجديد ومشروعه العولمة الغربية الصهيونية وعنوانه الأبرز فى يناير 1022 البرادعى، أو الشيوعية فى ثوبها الأناركى الفوضوى، ورمزها الاشتراكيون الثوريون، وغير ذلك من تهويمات الأمراض النفسية، والفكرية التى سيطرت على أطياف اليمين الدينى المتطرف، الذى يفسر الإسلام على طريقة الإخوان وصولا لأقصى التنظيمات تطرفا مثل القاعدة وداعش، والإسلام برىء منهم ومما يتخرصون.
كل هؤلاء انخرطوا فى مولد 25 يناير الذى لم يكن له صاحب، بعضهم دخل بزفة مثل زفة الولى، وآخرون تسللوا وذابوا فى الجموع، يحرضون، ويخربون بإيديهم، وأيدى المستأجرين، من العشوائيين، وأطفال الشوارع وكانوا كثر فى هذا الوقت استغلوا جوعهم وجهلهم، فقامت الأصابع “التى لم تعد خفية” بتوظيفهم فى أعمال التخريب والحرق، والنهب والسلب، مقابل وجبة يشتهونها، وورقة نقدية كانوا يتحصلون عليها من قبل بالتسول.
فلما انكشفت الوجوه والأدوار، أو قل بعض الأدوار، وانقشعت الغمة عن الأمة، بسقوط تنظيم الإخوان، والبرادعية، وثوار الاشتراكية، وتمت السيطرة على أطفال الأناركية، ها هى دورة الأيام تدور ويحاول البعض ممن ذكرنا أوصافهم آنفا، أن يطل برأسه مجددا، فنرى بعض الذئاب تلبس إهاب الحملان، وبعض الكلاب تنبح عبر وسائل التواصل، وبعض غربان الشوم تعود للتغريد عبر تويتر.
البرادعى يعود مجددا، أو قل يسخّن على الخط الآن استعداد للنزول إلى الملعب عندما يحل موسم الانتخابات الرئاسية، ويبدأ الأخير اللعب بالمطالبة بتفعيل مبدأ “العدالة الانتقالية”، فيقوم ربك سبحانه مسلّط ممدوح حمزة اليسارى على البرادعى الليبرالى “لمؤاخذة”، حيث الليبرالية الآن صارت مصطلحا سيىء السمعة، فيذكره حمزة بماضيه، ويذكّر الجمهور ويسبه قائلا: “البرادعى جاء لتمكين الاخوان من الحكم فى مصر”، وأنا اتفق مع الرفيق حمزة فى جانبا مما قاله، لكن الذى لم يقله لأنه لا يعرفه، أن الغرب كان يريد توظيف الإخوان بعد أن يصلوا للحكم (إدراكا منه أنهم التنظيم الوحيد القادر فى هذا الظرف على ملء فراغ السلطة) فى تخريب البلاد العربية بإدخالها فى حروب أهلية، وليس هناك أغبى من الإخوان فى أشعال وتأجيج هذه الفتن.. يعنى الإخوان كانوا مرحلة وسيطة فى خطة الغرب لتفكيك المنطقة وبلقنتها، تبعا لمخطط “الحدود الدامية” ليتشظى العرب، وتتقسم بلادهم الكبيرة فى المساحة، ويتقزموا دويلات لصالح الكيان اليهودى الإسرائيلى، ليعلو علي العرب ويقودهم، ويهيمن على الشرق الأوسط.
القصة طويلة وأكبر من مقال، لكننى فقط أردت أن أنبه أن هذه الوجوه التى عادت، تنصح، أو الأخرى التى تعلن التوبة والتغير، ذه الملل والطوائف لن ترضى، عنك إلا أن يصلوا إلى مايريدون.
أنا لم ولن أصدقهم، وإذا كان لهم وظيفة اليوم فلا أمان لهم فى الغد، أو كما قال لأمثالهم نبى الله يحيى حين ذهبوا إليه يطلبون المعمودية : “يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا ثمارًا تليق بالتوبة”.. فالتوبة الحقة مطلوبة قبل التعميد.