لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: المتغيرات الجديدة في موازين القوى
كانت تقاس قوة أي دولة أو كما يطلق عليها في محاضرات الاستراتيجية في كليات الدفاع في العالم قوة الدولة الشاملة حيث تشمل عناصرها القوى العسكرية ثم القوى السياسية والقوى الاقتصادية والقوى الجيواستراتيجية والقوة البشرية والقوى الثقافية وغيرها من القوى، وحتى زمن قريب كانت قوة الدولة تقاس بالقوة الأولى وهي القوى العسكرية، على أساس انها هي التي تؤمن حدود الدولة أو تحقق للدولة الهجوم على دولة أخرى لإجبارها على تنفيذ مطالبها او للاستيلاء على ثروات هذه الدولة أو لتنفيذ ضربة استباقية ضدها عند وجود معلومات أنها سوف تعتدي عليها وأما القوى السياسية للدولة فهي تبرز من خلال أهميتها مثلا، هل هي أحد أعضاء مجلس الأمن الدائمين ولها حق الفيتو أو هل هذه الدولة لها وجود داخل أحلاف عسكرية تحقق لها الحماية، مثل دول حلف الناتو أو هل لديها اتفاقيات للتعاون الاقتصادي مثل الاعضاء في مجلس التعاون الخليجي أو في الاتحاد الأوروبي.
وعندما نتحدث عن القوة الجيوستراتيجية، تعني مكانها على خريطة العالم وأهمية موقعها الجغرافي، وهل ذلك الموقع مؤثر عسكريا واقتصاديا وسياسيا مثل جيبوتي دولة صغيرة الحجم، لكن موقعها على مضيق باب المندب ومدخل لبحر الأحمر وعلى المحيط الهندي، وعلى الطريق البحري المؤدي إلى رأس الرجاء الصالح لدرجة ان هناك 4 قواعد عسكرية لأربعة دول هم أمريكا و فرنسا و الصين و اليابان كل ذلك يضع هذه الدولة بان لها أهمية جيواستراتيجية.
وفجأة ومنذ عدة سنوات تغيرت القيمة النوعية لكل عنصر من عناصر قوى الدولة الشاملة، حيث أصبحت القوة الاقتصادية للدولة هي أعلى درجة لتقييم الدولة، حيث هناك من يقول إن قوة الدولة الاقتصادية تحقق لها تكوين قوة عسكرية مميزة من جميع أنواع الأسلحة والقوات كما أن قوة الدولة الاقتصادية تمكنها من إدارة حرب طويلة المدى والدولة الضعيفة اقتصاديا لن تكون قادرة على إدارة حرب لفترة طويلة، كما أن الدولة ذات القوى الاقتصادية تستطيع إنشاء قواعد عسكرية. في مناطق عديدة من العالم. كما نها تستطيع انشاء صناعات عسكرية متطورة.
ولعل أبسط مثال على ذلك، أن إنجلترا كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. ولها في كل مكان في العالم تواجد وقوات وقواعد عسكرية، والآن فقدت كل ذلك لأنها لم تعد قادرة اقتصاديا على تحمل أعباء هذا التواجد خارج أرضها.
ولكن بنظرة إلى الصين، التي أصبحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية أصبح لديها تواجد كبير في أفريقيا ودول آسيا، بل لها قواعد عسكرية في أفريقيا وأصبحت الصين بقوتها الاقتصادية الآن أهم خطر يهدد الولايات المتحدة الأمريكية خاصة عندما رفعت الصين ميزانية الدفاع هذا العام إلى أكبر نسبة في تاريخها وأصبحت قوتها البحرية أقوى قوة بحرية في العالم.
من هنا بدأ الجميع يرى أن الحرب القادمة ستكون في منطقة جنوب شرق آسيا ضد قوة هذا التنين الأصفر الجديد، ومن هنا قامت اليابان بزيادة ميزانيتها العسكرية هذا العام لتعادل ميزانية وزارة الدفاع الروسية، كل ذلك لأن الصين الدولة القوية أمامها وأصبحت تهديدا مباشرا لها.
وخلال السنوات الخمس الماضية، ظهر عنصر جديد من عناصر قوة الدولة الشاملة وهي القوة المعلوماتية والتكنولوجية، فالمعلومات أساس اتخاذ أي قرار وكلما كانت المعلومات دقيقة وصحيحة كان القرار سليما، وكلما كانت المعلومات خاطئة وغير صحيحة كان القرار المتخذ خاطئا على أي مستوى سواء من الناحية العسكرية أو حتى الاقتصادية أو حتى السياسية، وأصبح ارتباط المعلومات بالقوة التكنولوجية، هامة حيث أن التكنولوجيا الحديثة تحقق للدولة الحصول على معلومات واضحة ودقيقة وأبسط مثال على ذلك الدولة التي تمتلك أقمار صناعية أصبحت قادرة على الحصول على المعلومات، وأصبح. التجسس السيبراني لكل دولة يحقق لها التجسس على الدولة الأخرى والحصول على أدق المعلومات.
وإذا نظرنا للصين الآن مثلا فإن شركة هواوي التي تعمل في مجال نظم المعلومات والاتصالات، دخلت في منافسة في بريطانيا، عندما أرادت بريطانيا إدخال نظام الـG5 نظام الاتصالات داخل المملكة المتحدة حيث أن معظم دول العالم حاليا تعمل بنظام G4، بما فيهم مصر والتي تطمع بالنظام الجديد، وهو الـG5 فلقد فازت الشركة الصينية هواوي عندما دخلت في هذه المناقصة ضد الشركات الألمانية والأمريكية والفرنسية.
ولأنها أكثر قدرة على تنفيذ المشروع بكفاءته العلمية متفوقة على شركات الدول الغربية الأخرى. ولكن قامت أمريكا بالضغط على إنجلترا لكي ترفض عرض الشركة الصينية لأن ذلك يعني أن دخول الشركة الصينية ولإنشاء هذه الشبكة الجديدة في إنجلترا سيتيح لها الدخول على جميع شبكات الاتصالات في أوروبا وبالتالي، يتيح لها وإلى الصين معرفة كل المعلومات عن دول الاتحاد الأوروبي. وهذا أبسط مثال على تقدم الصين في مجالات المعلومات والتكنولوجيا الحديثة. ويكفي أن نقول إن نظم الحاسبات والتكنولوجيا في روسيا استطاعت التدخل في الانتخابات الأمريكية السابقة من هنا اصبحت هذه الأنظمة المعلوماتية الآن تتحكم في كل شي في العالم.
لك أن تتخيل إن الطائرات التجارية تستخدم الأقمار الصناعية في سفرها وطيرانها من دولة لأخرى ولا نبتعد كثيرا إذا أردت أنت زيارة صديق لك. لأول مرة لن تقول له إبعت عنوانك لكن ستقول له إبعت Location أو موقعك من خلال تليفونك حتى التاكسي الذي تطلبه. يستخدم location. وكل الأقمار الصناعية التي تغذي جميع تطبيقات التليفون تستهدف الدولة مثل تطبيق تيك توك الذي تمتلكه الصين وتطبيق الواتساب، تابع لأمريكا وتطبيق تيليرام تابع لروسيا وتطبيق لائن تابع لليابان وتطبيق أم ولسي للصين كلها تدخل على حساباتك وتحصل على كل معلوماتك الشخصية.
وتأتي الطيارات المسيرة الدرونز مثلا واضحا على ذلك والتي أصبح لها القدرة باستخدام هذه التكنولوجيا المتقدمة ان تصبح أساس القوة الجوية الجديدة لأي دولة في العالم من ذلك كله أصبح عنصر المعلومات والتكنولوجيا لكل الدولة في العالم أحد نقاط تقييم قوة الدولة الحديثة، بل أصبح نقاط هذا العنصر يأتي في أهمية مباشرة بعد القوة الاقتصادية للدولة.
من هنا أصبحت كل دولة الآن تعمل على تطوير قوتها المعلوماتية والتكنولوجية، ومن هنا تغيرت محاضرات الاستراتيجية في كليات الدفاع في العالم عن العام الماضي لتضع القوى المعلوماتية والتكنولوجية للدولة هي القوى الثانية بعد القوى الاقتصادية لقياس قوة الدولة الشاملة بل أصبحت الدراسات في كل الجامعات في العالم كله تركز على العلوم والتكنولوجيا والإلكترونيات والفضاء ويتم التقليل عن العلوم النظرية بهدف خلق جيل جديد ينمي قدرة الدولة في مجال التكنولوجيا الحديثة ومعها نظام المعلومات الحديثة. وهكذا تغيرت مفاهيم قياس قوة الدولة ليكون أساسه القوة الاقتصادية ثم التكنولوجيا، ثم العسكرية وبعدها السياسية ثم باقي العناصر الأخرى.