د. هبة جمال الدين تكتب: السودان وتغيير الخريطة
تدور الأحداث في السودان بوتيرة متسارعة، يصعب التكهن بمستقبلها، فنتيجة تناحر قوتين عسكريتين ، ستكون نهايته عدد لا حصر له من القتلي والجرحي، من الأخوة الأشقاء. وربما لا قدر الله يصل الأمر لتقسيم الوطن “السودان” فالبقاء للأقوي في النهاية، وطرفي الصراع هم الاقوي فكلاهما مدججين بالسلاح ومدعومين من الخارج ، حتي وإن كان بينهما قوي مشروعة ومعترف بها “الجيش السوداني”، ولكن لابد من الاعتراف بأنهما أقرب في توازن القوي، فلا يوجد بينهما مدني أقل قوة ، وأنما لغة القوي هي الفيصل ، وهي المنتصرة في المشهد الأخير .
وقد سبق حدوث ذات السيناريو من قبل في ليبيا واليمن ، وشبح التقسيم نقف أمامه بأعين دامعة ، ولكنه بكل أسف هو مخطط مدعوم من الخارج.
وهنا يجب التوقف وقراءة المشهد بشكل اشمل في ضوء دراسات مراكز الفكر الغربية والإسرائيلية. التي من خلالها نستلهم بعض التقديرات من مرادفات المشهد السوداني:
فالان نتحدث عن قبائل السودان ونفوذ حميدتي ، وقبيلته ، فهل تردد الخطاب حول القبلية أمر عفوي ؟، أو أنه قاصرا علي الحالة السودانية؟.
في الواقع يحفل حقل النظم السياسية المقارنة بمد كبير لدراسات حول الاثنيات والقبائل والطوائف والملل والنحل، بداخل الدولة الواحدة ، وتدعي أن وجودها كان سابقا عن وجود الدول القومية ذاتها ، وأن تلك الدول لم تنجح في حل مشكلة الطائفية ، والعرقيات بداخل الدولة الواحدة والتي يمتد نفوذها خارج حدودها، ويترتب علي ذلك حالة من عدم الاستقرار المستمر بإستمرار تلك القضية ، وتطرح تلك الدراسات عددا من الحلول جميعها شديدة القتامة؛ كحق تقرير المصير لتلك الجماعات، يليه الاختيار بين الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية ، وتصل بعنانها لحد إعادة ترسيم الحدود السياسية ، وما يترتب عليه من نهاية للدول القومية.
– وإذا نظرنا للخطاب حول القبلية بالسودان ، بأنه مجرد خطاب إعلامي عفوي فلننظر إلي الدراسات التي تطالب بإعادة تغيير حدود الدول الغربية ذاتها ، وتطرح نظريات جديدة كنظرية التخوم الجغرافيه عبر ضم الدول الكبري لمناطق تخومها، من أجل التوسع وبسط النفوذ وحل بعضا مما تواجهه من مشكلات ؛ كمشكلة الهجرة غير الشرعية التي تقف السلطات عاجزة أمامها فمنها عناصر مفيدة لكنها لا تمتلك الاوراق الرسمية اللازمة لاعتماد دخول السلطات ، للمهاجرين ويأتي الحل في استضافتهم في التخوم الجغرافية حتي يتم استيعابهم في اراضيها لاحقا ، ونفس الفكرة دعمتها نظريات اخري ؛ كنظرية العقرب حيث تري أن حدود الدول لا يجب أن تتقيد بجغرافية إقليم الدولة ، الذي يمكن أن يتغير بتغير حدوده السياسية لتصبح عابرة للحدود ، بل للقارات اذا تطلب الأمر ذلك. فعلي سبيل المثال يمكن للولايات المتحدة أن تستضيف المهاجرين غير الشرعيين بإقليم أحد الدول النامية في اسيا او إفريقيا ولكن ببقعة تحت نفوذ القوي العظمي وسيادتها. الأمر الذي يتم الآن وفقا لاتفاقية دبلن بين دول الاتحاد الاوروبي وشمال افريقيا وتم بين امريكا وأوغندا منذ عامين ماضيين.
مما يعكس أن مفهوم تغير الحدود السياسية حتي للدول الكبري أمر محل دراسة ، بل وأنه أصبح مطروحا ضمن الدراسات الغربية لمراكز الفكر.
وإذا إبحرنا أبعد سنجد أن مبررات تغيير الحدود السياسية يتم تسويقها في ضوء اعتبارات عديدة منها:
– ان الحدود السياسية الحالية هي وريثة الاستعمار ، الذي لم يراع التكوين الداخلي لكل دولة وتسبب في اشتعال قضية القبلية.
– مفهوم الدول القومية هي وريثة اتفاقية ويستفاليا عام ١٦٤٨ ، ولكنها حدث ردة عليها فمع هذا العام المذكور كان عدد الدول ٧٥ دولة زادوا حاليا عن ١٩٤ دولة الان ، مما يعني أن تلك الدول نشات عن حركات انفصالية مما يعني مزيد من الضعف والتفكك كحالة جنوب السودان والجبل الاسود.
– الولايات المتحدة ذاتها تغيرت حدودها أكثر من مرة ، فضمت الاسكا لاقليمها وتنازلت للمكسيك عن عدة جزر عام ٢٠٠٩ في ريوغرندي.
– الاقليمية Regionalism التي تمثلها المنظمات الدولية الاقليمية ، كالاتحاد الاوروبي هي محاولات لبسط نفوذ الدول القومية بشكلٍ عابر للحدود الوطنية
– جلبت العولمة ملامح كثيرة عابرة للحدود ومتخطية لها كالشركات العابرة للقوميات ومنظمات المجتمع المدني والانترنت وحقوق الانسان والهجرة ، كلها مفاهيم وكيانات رافضة للتمسك بالحدود.
– الاديان عابرة للحدود ومتخطية لها والآن نشهد مفهوم الاخوة الانسانية الذي يكسر الحد ويجعل الجميع سواء مناقضا لمفهوم الوطنية والالتزام بها وما صاحبها من مفاهيم شاذة ؛كمفهوم المواطن العالمي الذي يعلن عدم اعترافه بالحدود السياسية للأوطان.
واليوم نقف أمام الابراهيمية كأحد صور تجسير الحدود وإزالة الفوارق بين الأديان تمهيدا لإزالة حاجز الحد السياسي للأرض للوصول لاتحاد فيدرالي علي انقاض الدول المنهارة المفتتة.
هنا علينا الانتظار والتأمل هل مع كل هذا الزخم لا يمكن الإفلات من المخططات التدميرية؟
هنا سأستحضر نظرية الإدارة بالأزمة فلا يمكن الإفلات من الأزمات المدبرة، إلا بخلق أزمات لدي العدو من أشعل النار ليترك لك الساحة لتلملم أدراجك مرة أخري.
وعلينا كشعوب أن نعي المخطط لنعلي المصلحة الوطنية أمام حق تقرير المصير الذي يسوقه الغرب مرارا كما حدث في كتالونيا وكردستان العراق فلم يستطع تقرير المصير التغلب علي الإرادة الوطنية. فاستعمال الديموقراطية الغربية يجب أن نستخدمه في صالح مستقبلنا.
والأهم هي تقوية الإقليمية العربية عبر التعاون والدعم العربي والاستثمارات ونزع فتيل الفرقة فتسونامي التقسيم اذا بدأ سيكتسح الجميع، ومع هذا يمكننا النجاة من ذلك المخطط باللحمة.
ففي يوم قريب ستتوقف الدبابات وتنحني المدافع ، ليقل الشعب كلمته التي يجب أن تعلي قيمة الوطن عليا.
………………………………………………………………………………………………………………….
الكاتبة: أستاذ العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية