قاوم المرض اللعين بالصبر ونظم الشعر فى معهد الأورام.. 40 عاما على وفاة أمل دنقل
- عاش يتيما ومات موهوبا فى تفعيلات الشعر الحديث
كتب: إسلام فليفل
فى مثل هذا اليوم الحادى والعشرون من مايو نعيش ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل، الذى رحل عن دنيانا منذ أربعون عاما.
قبس من السيرة
فى قرية من قرى الصعيد النائية تسمى القلعة تابعة لمركز قفط، في محافظة قنا، ولد بطل الجكاية، واسمه كاملا هو: محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل.
وكانت فترة تاريخ ميلاده ومماته بين التاريخين (١٩٤٠ – ١٩٨٣)، وكان والده عالما من علماء الأزهر، وفى عام ميلاده ()١٩٤٠، حصل والده على الإجازة العالمية من الأزهر الشريف وتلك شهادة عليا وتعنى اتمام واستكمال مناهج الدراسة فى الأزهر، وأصبح والده من علماء الأزهر، وتيمنا بهذا أطلق والده عليه اسم أمل، تفائلا به.
وعمل الوالد مدرسا للغة العربية وعندما فقد أمل دنقل والده وهو فى العاشرة من عمره، أصبح، وهو فى هذا السن، مسؤولا عن أمه وأخيه واخته الوحيدة، بما أنه الإبن البكرى وتحمل الطفل اليتيم المسؤلية.
ومنذ بواكير حياته، كان أمل محبا للقراءة، يقضى معظم وقته فى حجرة المكتبة التى خلفها أبوه، وتضم العديد من أمهات الكتب، ولعبت “المكتبة” الدور الأكبر فى النشأة الثقافية للشاعر الراحل، الذى كان عاشقا للقراءة إلى حد الالتهام، فكان يكاد لا يخرج من مكتبة والده إلا للنوم أو تناول الطعام، وكثيرا ما تقمص الطفل اليتيم أمل دنقل دور الأب العالم الأزهر.ولذلك تأثر علميا بما كان يقرأ ويحفظ من الشعر.
والتحق الفتى النابه بالمدرسة الابتدائية، وأنهى بها دراسته سنة ١٩٥٢، وقد عُرف بين أقرانه بالذكاء والجد تجاه دراسته، كما عُرف عنه أيضا التزامه بالتماسك الأسرى، واحترامه للقيم والمبادئ، فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته، وعن أبيه الشخصية القوية المنظمة، ليس هذا فحسب بل ورث عنه أيضا حبه للعلم.
علمى أم أدبى؟
وحينما وصل أمل للمرحلة الثانوية بدت ميوله العلمية، وهيأ نفسه للالتحاق بالشعبة “العلمى” تمهيدًا لخوض غمار الدراسة الأكاديمية فى تخصص علمى كالهندسة أو الكيمياء، لكن العجيب أن أصدقاءه قد أثروا كثيرا فى تحوله المعاكس إلى الأدب والفن فى هذه الفترة، فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه “عبد الرحمن الأبنودى” وقد تعرف عليه أمل بالمرحلة الثانوية، ولهذا السبب إضافة إلى موهبته الشعرية الباسقة، لم يكد أمل ينهى دراسته بالسنة الأولى الثانوي إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها فى احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية.
قرر أن يكون شاعرا
وقرر الفتى أن يكون شاعرا ولذلك سأل أحد معلمى اللغة العربية كيف يصبح متميزا فى الشعر؟، فأجابه الأخير: “من أن أراد أن يكون شاعراً فليحفظ ألف بيت من بطون الشعر العربى، وليدرس علم العروض”، فعكف أمل على حفظ ألف بيت من دواوين الشعر والأداب العربية، وكانت تلك المهمة شغله الشاغل بل كان يترك تحصيل بعض المواد الدراسية من أجل إتمام هدفه، ليكون مثل والده، وليتمكن وهو فى الصف الثالث الثانوى من كتابة الشعر العمودى، وسط إشادة من جميع معلمى اللغة العربية، وكان سر عبقريته تتمثل فى أنه نموذج حقيقى للحداثة العربية التى تستهلم التراث العربى باحتراف.
اقرأ أيضا:
– فى مثل هذا اليوم 30 يناير تولى هتلر الحكم فى ألمانيا.. مختصر سيرة الفهرور
– فى مثل هذا اليوم قبل 67 عاما صدر قرار الحل (الثانى) لجماعة الإخوان الإرهابية
ونُشر لأمل دنقل وهو ما زال طالبا فى المرحلة الثانوية أبياتا شعرية فى مجلة مدرسة قنا، وبعد أن حصل على الثانوية العامة، التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة عام ١٩٥٨، وساعده ذلك على الإقامة فى القاهرة، ولكنه لم يمكث فى العاصمة، سوى عام واحد، ورحل عنها ١٩٥٩ إلى قنا ثانية حيث عمل موظفا بمحكمة قنا.
عاشق الترحال
لكن الشاب القلق لم يستقر فى وظيفة، وحينما عمل فى مصلحة الجمارك بالسويس ثم الإسكندرية، إذا به يترك الوظيفة، لقد اعتاد أمل الترحال، والشعر يستهويه، ولذلك ترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة.
الوطن والسياسة.. الثورة والنكسة
ومع مراحل العمر وأحداث التاريخ الوطنى، وإرهاصات ثورة عام ١٩٥٢، ثم قيامها، كانت شعارات ثورة يوليو تلهب حماس وانجذاب الكثيرين لها، وكانت الثورة أمل جموع الشعب الكادح، ومنهم أمل دنقل، وما بعدها من أحداث سياسية وحروب، أدت إلى إحتلال اسرائيل الأراضى العربية.
وبالشعر الذى ينضح بالوطنية، ويعكس عبقرية توظيف الكلام والعبارات، بشكل مذهل، سجل أمل دنقل شهادته على أحداث العصر، وتلك الحقبة، وجسّد الأحداث السياسية.
كان الشاعر الراحل، لا يعرف الخوف، شديد الصلابة، عاشقا لتراب وطنه، تنبأ بنكسة ٥ يونيو ١٩٦٧ التى احتلت فيها إسرائيل الأراضى العربية ومنها شبه جزيرة سيناء بقصيدة “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة”.
“الكعكة الحجرية”.
وعبّر عن هموم الحركة السياسية لطلاب الجامعات فى قصيدة “الكعكة الحجرية”، وهى واحدة من أشهر قصائده.
وكان أحد أعمدة السواري حيث يجتمع حوله الطلاب في ميدان التحرير فى بداية السبعينيات، لمطالبة الرئيس السادات، بتعجيل معركة استرداد سيناء من إسرائيل.
“لا تصالح”
ولعل أفضل ما كتبه الشاعر الراحل أمل دنقل، قصيدته المشهورة: “لا تصالح” تعقيبا على معاهدة إبرام الرئيس السادات اتفاقية “كامب ديفيد” مع إسرائيل، والتى يقول فى مطلعها:
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
وكان الشاعر الراحل يجيد بامتياز توظيف الرموز والأقنعة فى شعره، فيستدعي شخصيات تاريخية ودينية مثل: “سبارتاكوس ، الإسكندر الأكبر، الحسين بن على، الحلاج، زرقاء اليمامة، يهوذا، هارون الرشيد، جليلة بنت مرة، ويوظفها لمعالجة واقع معاصر وقضايا حديثة، ليخلق امتزاجا مثيرا بين الماضى والحاضر ، وتلك موهبة نادرة.
المرض اللعين.. والغرفة رقم “8”
وأصابه مرض السرطان اللعين فواجهه بصلابة واتخذ من محنته دافعا للكتابة، ولأنه لا يعرف الخوف، شديد الصلابة، حتى بعد إصابته بالسرطان لم يهتز، بل واجه تلك المرحلة بشجاعة كبيرة أدهشت كل من حوله.
وحينما تمكنت الأورام السرطانية منه قرر الأطباء أن يقيم مدة عامين تحت الرعاية الطبية فى معهد الأورام في الغرفة “رقم 8″، التى خرجت منها العديد من القصائد التى تقطر إبداعا مرا.
والمدهش أن فترة المرض، اتسمت بإنتاجه الشعرى الغزير، مقارنة بالمرحلة السابقة عليها، إذ قدم فى هذه المرحلة ديوانه المميز “أوراق الغرفة رقم 8″، الذى سجل فيه مرحلة مواجهة الموت والمرض فى معهد الأورام، وعلى الرغم من حالته الصحية المتأخرة، لم يستطع المرض أن يوقفه عن الكتابة.
الرحيل
وآخر ما كتبه دنقل قبل رحيله، كانت قصيدة “الجنوبى”، التى تكتنفها رؤية فلسفية عميقة للموت والحياة، ولأن الأعمار بيد الله، صعدت روح أمل دنقل إلى ربها فى الحادى والعشرون من شهر مايو عام ١٩٨٣م، ودفن جسده فى بلدته طبقا لوصيته.
وغيب الموت الرجل، لكن استمر شعره هادفا ثائرا على الواقع، وأحيانا ساخرا منه، وترك الشاعر الراحل للمكتبة العربية العديد من الدواوين الشعرية التى ما زالت محفورة فى أذهان ونفوس عشاق الشعر الحديث، ومع ذكرى وفاته من كل عام دائما ما تقام أمسيات شعرية تخليدا لذكراه.