لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: الاستثمار المصري.. والتجربة الصينية

ترأس السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للاستثمار، ليؤكد حرص الدولة على اتخاذ إجراءات حاسمة لتحقيق طفرة كبيرة في جذب وتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية، والقضاء على العقبات والبيروقراطيات التي من شأنها تعطيل مسيرة تلك العملية.

وقد انتهى الاجتماع بإصدار 22 قرار اقتصادي، مع تكليف الحكومة بوضع الإجراءات اللازمة، والواجبة، لتنفيذها. ولعل من أهم تلك القرارات، تسهيل تملك الأجانب للأراضي، مع وضع سقف زمني، مدته عشرة أيام عمل، للحصول على موافقات تأسيس الشركات، والتوسع في اصدار الرخصة الذهبية، وغيرها من القرارات التي ستسهم، بالتأكيد، في الإسراع بتأسيس عصراً جديداً للاستثمار، بعيداً عن البيروقراطية، التي تعد سبباً في تعطيل المشروعات الاستثمارية.

ولما اطلعت على نتائج ذلك الاجتماع، وجدتني أتذكر الصين، التي صارت معشوقتي الجديدة، واحتلت مكانة فرنسا في قلبي، وعقلي، التي طالما استمتعت، مع صديقي اللواء محسن السلاوي، بزيارتها، والتنزه في أحيائها، وشوارعها الجانبية، والرئيسية، كالشانزليزيه، خاصة وإن تزامنت الزيارة مع فترة أعياد الميلاد والعام الجديد، لترى جوانبها تتلألأ بالأنوار، وتمتعك أجواء شتاءها البارد، فتبعث فيك النشاط والحيوية.

ثم تتوقف في مقاهيها المنتشرة على كل جانب، لتتناول القهوة الفرنسية، أو الشكولاتة الساخنة، مع قطعة من الكرواسون، أشهر المخبوزات، التي اقتبستها دول العالم من فرنسا، ولم تتمكن أيها من مضاهاة المذاق الفرنسي المميز. ولم نمل يوماً من زيارة منطقة مونمارت، المعروفة بحي الفنانين، أو تناول العشاء في أي من مطاعم الحي اللاتيني بها.

وبرغم كل تلك الذكريات الجميلة، هجرت معشوقتي باريس، ومال قلبي نحو الصين، بعدما زرتها أربعة مرات، ولمست نهضتها الاقتصادية الكبرى، التي جعلتها ثان أكبر القوى الاقتصادية في العالم، بعد الولايات المتحدة، التي تدرك أن استمرار تقدم الصين بذات المعدلات، سيضعها في مركز الصدارة الاقتصادية، بحلول عام 2030. شملت تلك الزيارات المتعددة للصين، ثلاث زيارات لمدينة تشن تشن، تلك المدينة التي كانت منذ نحو ثلاثين عاماً، عبارة عن قرية، يعيش فيها سبعة آلاف صياد، إلا أن قربها من شنغهاي، جعل الحكومة تقرر تحويلها لمدينة استثمارية، وشيدت الحكومة الصينية سوراً ضخماً حولها، وقصرت دخولها على من له عقد عمل بأحد مصانعها.

وصل تعداد المدينة، الآن، إلى 10 مليون نسمة، من العاملين بالمصانع العالمية الموجودة بها، وفي غضون 25 عاماً، صارت تحولت بوصلة الاستثمارات الأجنبية، في جنوب شرق آسيا، إليها، خاصة بعد تعزيزها بميناء خاص، لتصدير كافة إنتاجها منه.

اعتمد تخطيط المدينة على مبدأ الأحياء أو التجمعات الصناعية المتكاملة، بحيث يستضيف كل جزء منها صناعة رئيسية لتوطينها بها، مع استقبال باقي الصناعات المغذية للنشاط الرئيسي، ففيها تجد حياً لصناعة الإلكترونيات، وآخر للبتروكيماويات، وثالث لصناعة المنسوجات، وحولهم تتركز الصناعات المغذية لكل نشاط. ولم تكتف الصين بذلك، بل جهزت نماذج للمصانع المطلوبة، وفقاً للنشاط، وزودتها بكافة المرافق والبنية الأساسية اللازمة، من مياه وكهرباء وصرف صحي واتصالات، ليتسلمها المستثمر، ويبدأ نشاطه على الفور.

وعندما توليت مسئولية الأقصر، كأول محافظ لها، تواصلت مع مسئولي مدينة تشن تشن الصينية، للتعاون في إنشاء منطقة استثمارية بالأقصر، لتنويع مصادر دخل المحافظة، وعدم قصره على النشاط السياحي، فقط، وحينها زرت المدينة الصينية، لمدة ثلاثة أيام، كانوا كافيين للتعرف على سر تقدمها، في تلك المدة الزمنية القصيرة، في عمر الأمم، وهو “اللابيروقراطية”؛ فالمستثمر يدخلها حاملاً طلب إنشاء مشروع استثماري جديد، فيلتقي مسئولي الاستثمار، لمراجعة تفاصيل المشروع، واحتياجاته، سواء مساحات الأرض، أو المرافق، والتعرف على قواعد وقوانين العمل، وحوافز الاستثمار بها، والتي تعد حوافزها الضريبية، الأكثر جذباً على مستوى آسيا. وإذ لزم الأمر، يقدم مسئولو المدينة للمستثمر دراسات جدوى، معدة سلفاً، للمشروعات المدرجة ضمن استراتيجية المدينة وخطتها التنفيذية، لمراجعتها، والاختيار منها في خلال أيام.

أما إن كان المستثمر جاهزاً بتفاصيل مشروعه، فيخرج بعد خمس ساعات، وفي يده التصديق على تنفيذه، مع الأرض المخصصة لإقامته، وفي يده الأخرى التعليمات والقوانين المنظمة لعمله، لدراستها، والعودة بعد 48 ساعة، لسداد المبالغ المستحقة عليه، واستلام أرض المشروع في خلال 48 ساعة لاحقة.

ويظل مجلس المدينة يراقب التنفيذ، يومياً، لضمان عدم مخالفة القواعد والقوانين، سواء الخاصة بالبناء أو العمالة، وطالما التزم المستثمر بها، فالعمل يسير دون توقف، أما إن خالفها، فيؤل أمره لمحكمة صينية مختصة، للنظر فيه، وإصدار أحكامها النافذة، في خلال 72 ساعة، على الأكثر، والتي تتراوح بين منح المهلة، وسحب المشروع، فوراً، ومصادرة ما عليه من إنشاءات أو معدات. وهكذا انطلقت تشن تشن إلى العالمية، ونافست هونج كونج، وشنغهاي، وبزغ العملاق الصيني الجديد، الذي خطا أولى خطواته منها.

تلاحقت كل تلك الذكريات في ذهني، وأنا أتابع قرارات السيد رئيس الجمهورية بعد اجتماع المجلس الأعلى للاستثمار، والتي تؤكد حرص سيادته على عمل المجلس بذات الوتيرة، وهو ما تأكد من خلال تكليفاته للحكومة للعمل بتلك الديناميكية لتيسير مناخ الأعمال في مصر، في ظل ما تتمتع به من مقومات أساسية، لعل منها المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بموقعها الفريد، ومساحتها الشاسعة، وتكامل أراضيها الصناعية، مع الموانئ البحرية التابعة لها، بما يؤهلها لأن تكون الوجهة الأفضل للاستثمار، على المستوى الإقليمي، والقاري، ولا ينقصها إلا توحيد الجهود لهزم البيروقراطية.

Email: [email protected]

 اقرأ أيضا للكاتب:

لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: إسرائيل تشكل قوة الحرس الوطني الجديد

لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: حرب غزة “نظرة تحليلية”

زر الذهاب إلى الأعلى