رفعت رشاد يكتب: ما بعد النكسة
كان خروج الشعب لرفض التنحى حماية للبلاد. أدركت الجماهير أن من نفّذوا مؤامرة وحرب يونيو سيؤكدون نصرهم بذهاب «عبدالناصر» ووضع نصير لهم فى سدة الحكم.
كانت البصيرة الجماعية للناس تبلورت فى موقفهم برفض التنحى. فى الوقت نفسه رفض الشعب خروج ناصر دون أن يعيد الأمور إلى نصابها الذى كانت عليه، فما معنى أن يتسبّب فى النكسة ثم يغادر؟ كان خروج الملايين لرفض التنحى يعنى الإصرار على مواصلة النضال، وعلى أن يصلح «ناصر» ما أفسده.
كان خطاب عبدالناصر للتنحى خطوة سياسية بارعة، فعندما عرض التنحى لم يكن يكذب أو يخدع الشعب، وإنما كان يهدف من وراء ذلك إما أن يختار الشعب حاكماً جديداً فيتحمّل مسؤولية السنوات القادمة، أو يكون رد الفعل كما حدث فى الواقع تماماً، بأن يُجدّد الشعب الثقة فيه رئيساً وحاكماً، فيكتسب شرعية جديدة مباشرة من الناس ولا تعلق فى رقبته تهمة الاستمرار فى الحكم رغماً عن إرادة الجماهير، وهو ما سيتيح له مرونة وسرعة فى الحركة تجعله قادراً على التغيير فى الأشخاص والسياسات وإعادة النظر بشأن كل ما حدث من أخطاء أدت إلى النكسة.
لم يكن الشعب المصرى فحسب الذى جدّد الثقة فى «عبدالناصر». جددها الشعب العربى فى السودان، نيابة عن بقية الشعوب العربية. فى 29 أغسطس 1967 انعقد مؤتمر القمة العربى فى الخرطوم. شهد العالم أن الشعب السودانى خرج عن بكرة أبيه يستقبل الزعيم الذى انهزم.
دُهش العالم وتصدّرت صور الاستقبال التاريخى الصفحات الأولى للصحف. كان الشعب العربى يدرك أن «عبدالناصر» لم ولن ينحنى. خرج المؤتمر باللاءات الثلاثة الشهيرة، «لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل». يعتبر مؤتمر قمة الخرطوم أقوى مؤتمرات القمة العربية، لأنه المؤتمر الذى توحّد فيه الصف العربى.
واتخذ المؤتمر قرارات برفض الهزيمة ورفض التآمر الدولى الغربى لكسر الأمة العربية وقرر دعم دول المواجهة.تحرك «عبدالناصر» سريعاً بعد أيام من الحرب. بدأ حرب استنزاف طويلة. لم يمر يوم إلا وكان الجنود المصريون يضربون العدو فى سيناء خلف الخطوط. صقلت حرب الاستنزاف خبرات أفراد القوات المسلحة. سارع «عبدالناصر» بشراء السلاح من الاتحاد السوفيتى.
لم يتأخر السوفيت وأرسلوا طيرانهم لحماية السماء المصرية بعد تدمير أسطولنا الجوى. أرسلت كوريا الشمالية أيضاً قوات جوية لحماية مصر من الطيران الإسرائيلى.أعاد «ناصر» بناء الجبهة الداخلية، وتخلص من مراكز القوى التى كانت أحد أهم أسباب الهزيمة. أعاد «عبدالناصر» وضع خطط وسيناريوهات للحرب.
تكررت زياراته للجبهة والتفاعل مع الجنود. غيّر منهج التجنيد، ودفع بحاملى المؤهلات الذين استوعبوا الخطط المتطورة والأسلحة الحديثة. بنى حائط الصواريخ الذى حمى سماءنا إلى أن بنينا سلاحنا الجوى مرة أخرى، وكان له دور مؤثر فى حرب أكتوبر.
كان الشعب المصرى طوال تلك الفترة النواة الصلبة لثمرة الدولة وساند جيشه بكل قوة من أجل استرداد الأرض والكرامة.