أحمد شيخو يكتب: قراءة لتفاعل المشهد الإقليمي وتكويناته (1)

بيان

لقد تشكّل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط كما في عدد كبير من الأقاليم حول العالم، نتيجة التدخّلات الخارجية ومشاريعها، ورغبة القوى المركزية في النظام العالمي الليبرالي في إيجاد آليات وأدوات تستطيع عبرها وبها من فرض الهيمنة ونهب المنطقة بقيمها المادية والمعنوية، كالدول القومية المركزية وأمة الدولة النمطية ذات اللون الواحد وثقافة القطيع، مما خلق إشكالية بين المجتمعات والشعوب من جهة وبين السلطات الحاكمة من الجهة الأخرى، تلك السلطات التي في غالبيتها تأخذ مشروعيتها ودوام وجودها من النظام العالمي والأدوار الوظيفية المنوّطة بها، وليس من المجتمعات والشعوب وإن تم الخداع والتضليل باسم الصناديق والانتخابات الشكليّة.
هنا تكمن المشكلة، حيث أن هذا التشكّل القسري للمشهد الإقليمي لم يأخذ بعين الاعتبار أولويات ومصالح شعوب المنطقة واحتياجاتها والجغرافيات السكانية الطبيعية، بل يمكننا القول انه يُشكل أحد أهم الأسباب الرئيسية لأزمات ومشاكل المنطقة التي تعاني منها شعوبنا.
إن التشكّل الاجتماعي المضطرب والصياغة الفكرية والثقافية والفلسفية للدولة القومية وعقليتها السلطوية المركزية الدولتية، علاوةً على منظومة الاقتصاد والسياسة والأمن القمعية والفاسدة، كانت ومازالت تُشكّل القسم الأكبر من التحديات الموجودة لمحاولات القوى المجتمعية الوطنية والديمقراطية والأخلاقية، لإحداث انطلاقات جديدة وبناء سياقات نضالية نحو مزيد من الحرية والديمقراطية والعدالة لتعزيز الحضور المجتمعي وتبديل بنية المجتمعات من الاستقرار الساكن المؤقت إلى الاستقرار المتجدد الدائم في بناء الحياة الحرة التي تحفظ كرامة الإنسان ووجوده وحريته وإرادته وإرادة مجتمعه قبل أي سلطة أو دولة.
بالرغم من البُعد الحضاري للشرق الأوسط وشعوبه، وتنوّع العلاقات وظهور الكثير من أنواع الدبلوماسيات الشعبية والثقافية والاجتماعية، إلا أن العلاقات بين أبناء المنطقة ومجتمعاتهم فيما بينهم، وبينهم وبين الخارج، مازالت تعاني الكثير من أوجه القصور، علاوةً على المشاكل والأزمات فيها، بسبب الإصرار على أن العلاقات الدبلوماسية لها جانب رسمي فقط أو أن المُحرك والمرجع هو العقل الدولتي وأجهزتها ورسميتها المركزية الاحتكارية دون المجتمعات والشعوب أصحاب المصلحة الحقيقية في نسج العلاقات الصحيحة والبنّاءة والمفيدة بين كافة الأطراف ومن مختلف النواحي من علاقات أخوّة الشعوب والتعايش المشترك بين الشعوب وحل القضايا العالقة.

 

قِوى المشهد والنظام الإقليمي

ولو أردنا التدقيق في المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط وتكويناته، لا بد أن نلاحظ  أن عدد من القوى الإقليمية المتناقضة ومشاريعهم الخاصة في ظل مشروع عالمي للمنطقة يريد تجديد الهيمنة والنهب بإدخال بعض التعديلات في النظام الإقليمي ومهنيّة الدول القومية لتناسب المعطيات الجديدة مع المحافظة على المتعهدين السابقين بأدوار جديدة أو إدخال متعهدين جدد أو السماح بنسج علاقات بين المتعهدين لإحداث وقائع تتغير معها بعض الديناميكيات الساكنة والسابقة لخدمة النظام الرأسمالي العالمي أكثر.

وكذلك علينا رصد حالة الشعوب والمجتمعات المهمة والأصيلة القادرة على إحداث فارق كبير رغم حالة الضعف والهجمات التي تعرّضت وتتعرّض لها، إن هي تحركت بتنظيم ووعي وحركيّة مُنسقة ومُدربة، إضافة إلى العديد من مراكز القوى وكذلك الجغرافيات التاريخية والاستراتيجية المحددة لمفردات ومفاهيم الأمن التكاملي والدفاع الاستراتيجية، ناهيك عن نواة مهيمنة إقليمية للنظام العالمي يُراد توسيع هيمنتها دون حل الإشكاليات العالقة، بل عبر إذكاء الخلافات ومحاولة تحقيق اندماج مؤقت يُراد أن يكون سبيل لحالة الإدماج والتكامل الأحادي وليس التشاركي الديمقراطي أي المجتمعي.

وهنا يمكننا أن نتحدّث عن التفاعلات بين قوى المنطقة وتكويناتها العرقية والدولتية والدينية السلطوية والشعبية وفي داخل كل واحدة منها وحولها وهي:

تفاعلات إيران (الشيعة القوميّة) وعلاقاتها في الشرق الأوسط:

انتقلت إيران منذ ١٩٧٩ إلى لبوس جديد إسلامي شيعي بصياغة قومية أرادت وتريد إعادة أمجاد كيروس والبرس والساسانيين، ولكن بموديل ديني شيعي.

تريد تقمّص شيعية آل البيت ومذهبية خاصة للتمدد والتوسع في المنطقة والمجتمعات الإسلامية عبر استخدام مختلف الوسائل والظروف والاستفادة من أزمات الشرق الأوسط واستغلال الموروث الديني لآل البيت.

علماً أن النظام الإيراني يعيش الأزمة بحد ذاتها كأحد أنظمة المنطقة، بسبب سياسة الإقصاء والتهميش والعِداء والاستفراد بالسلطة التي يمارسها منذ أن قضى وخطف ثورة الشعوب الإيرانية بمساعدة الجهات الخارجية التي أرسلت الخُميني بطائرتها وسمحت له في الذهاب لبعد أحادي شيعي ومركزي دولتي، لا يعترف بحق الشعوب غير الفارسية في إدارة وحماية أنفسهم ضمن جمهورية إيرانية ديمقراطية تستوعب الجميع.

وما شهدته إيران من انتفاضة “المرأة، الحرية والحياة” المستمرة في السنة الأخيرة وإلي اليوم، ما هي إلا إشارة ودلالة على رفض الشعوب في إيران لهذه العقلية والعلاقة السلطوية ونوعية الحكم والثقافة القسرية التي تُفرض على النساء وعلى كافة الشعوب والمجتمعات في إيران، في ظل صمت وتواطؤ دولي وإقليمي مع النظام الإيراني الذي هو أحد مُسننات وأدوات هذا النظام الإقليمي المراد الحفاظ عليه حالياً على الأقل من قبل النظام العالمي المهيمن الليبرالي.

في حين أن الثقافة الإيرانية المتعددة لها القدرة الكامنة في العديد من الانطلاقات الجادة لحل ديمقراطي يجمع كل الشعوب في إيران ضمن جمهورية ديمقراطية للجميع.

تركيا (الإسلام السياسي+ القومية الطورانية التُركياتيّة):

تُجسّد تركيا منذ اليوم الأول بالسماح لنشؤها عبر سلسلة من الإبادات الجماعية بما فيها القتل الجماعي والتهجير القسري بحق الشعوب والمجتمعات، أحد مخافر النظام العالمي وأدواته الوظيفية.

وعندما تم السماح للمشروع العثماني بالتوغّل في سوريا والعراق وليبيا وعدد من دول المنطقة فهو ليس إلا لتحقيق توازن مع غيره من الأدوات والقوى التي تريد أن تكون مساحتها التأثيرية ونصيبها من الكعكة أكثر في ظل اضطراب أمواج الدول والسلطات ورغبة كل القوى إقليمية أو العالمية في التموضع والوضع الذي يعطيه أوراق قوة وضغط أكبر في المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط.

وكما أن علاقة تركيا الأردوغانية الحالية مع الداخل لا تختلف عن الخارج فهي إما في حرب وصراع مستمر، أو هُدن مؤقتة لأجل الحرب مرة ثانية، فركيزة البقاء لنظام أردوغان وبخجلي الفاشي هي الحرب والإعلان عن أن كل مخالف هو إرهابي يستوجب قتله أو سجنه وإعدامه.

أما محاولة التحسن النسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة أو إعطاء انطباع مختلف فهو لحين ولأجل حالة الهدنة المؤقتة لتجميع القوى والهجوم مرةً أخرى.

وطالما بقيت ذهنية وسلوك الإبادة حاكمة في تركيا فستعاني شعوب تركيا وشعوب المنطقة من حالة التدخّل والتجاوز على سيادة المجتمعات والدول.

……………………………………………………………..

كاتب المقال: كاتب وباحث سياسي

اقرأ أيضا:

الانتخابات التركية بعيون كردية.. أحمد شيخو يرصد مؤشرات هزيمة أردوغان

اسطنبول قالت لا لأردوغان.. ونتائج الانتخابات تشير إلى جولة إعادة

زر الذهاب إلى الأعلى