رفعت رشاد يكتب: سواق الأوتوبيس.. كلاكيت كمان مرات!
اختار الكاتب الكبير رفعت رشاد مشهدا من فيلم ينتمى لكلاسيكيات السينما المصرية، ليفتتح به مقاله، وأسقط المشهد الدرامى على الواقع الذى نعيشه، الأكثر درامية. والعمل الدرامى الناجح هو الذى يستطيع أن يخطف انتباه المشاهد ويجذبه للمتابعة، ويسمى الدراميون هذا بـ “الهوك” أو الخطاف، وكذلك المقال الناجح، يفعل من عباراته الأولى، ومقال رشاد التالى مثال على ما سبق، فقد نجح الكاتب أن يخطف انتباهنا لنواصل القراءة للنهاية، المقال منشور اليوم فى صحيفة “الوطن” وفى التالى نصه:
من أروع المشاهد فى السينما العربية، المشهد الأخير فى فيلم «سواق الأوتوبيس»، كان النشال يسرق أحدهم فى الأوتوبيس الذى يقوده نور الشريف، استطاع النشال الإفلات من داخل الأوتوبيس لكن السائق قفز من الشباك ليلحق به وأمسكه وانهال عليه ضرباً شفى به غليله.
كان السائق يقصد جماعة لكنهم غير معروفين، أشخاصاً ضمن ما يسمى المجتمع، لا ملامح محددة لهم، لكنهم مؤذون، فعلوا ذلك مع السائق ويفعلونه معنا جميعاً. ولا يمكنك أن ترد لهم الأذى، فهم ليسوا فرداً، وليسوا جماعة أو قبيلة أو عائلة، إنهم الكل، هم فى كل مكان ولا يمكن أن تفلت منهم.
فى فيلم أمريكى عنوانه «القناص» بطولة مارك والبيرج، يوجد هؤلاء المؤذون، يحاول بطل الفيلم محاربتهم لكن جاءت الكلمات على لسان خصمه الممثل دانى جلوفر: يا بنى أنت تحارب خفايا (جمع خفى) إنهم ليسوا واحداً أو اثنين، إنهم كثيرون، وحتى لو قتلت عدداً فإن آخرين سيظهرون، وسوف يستمر ظهور غيرهم ويتواصل، ولن تقدر أنت أو غيرك على قطع سلسلتهم.
عبارات شبيهة تضمنها أحد أفلام النجم دينزل واشنطن عندما سعى لمقاومة عصابة شرسة، قال له أحدهم: إنهم لن ينتهوا فأنت لا تحارب أشخاصاً معروفون، هؤلاء لا ينتهون. وبمناسبة هؤلاء الذين لا نعرف ماذا نسميهم، تذكرت رواية مجيد طوبيا بعنوان «الهؤلاء» وفى تفاصيل الرواية البديعة ما يشبه هؤلاء الخفايا.
من هم الهؤلاء؟. إنهم الأشخاص المؤذون، المزعجون، الذين تقابلهم فى الشارع، فى المترو، فى الميكروباص، فى العمل، أمام المخبز، وحتى فى أماكن العبادة.
هم يمارسون الأذى بالفطرة، فهذا ما جبلوا عليه، ربما لا يقصدونك أنت أو غيرك، لكنهم يسببون ألماً لغيرهم. هؤلاء الهؤلاء لديهم كمية من اللامبالاة تكفى لأذى شعبنا وشعوب أخرى من باب المجاملة.
قد تصادف أحدهم يتنطع على باب المترو حاجزاً الصاعد والهابط من المترو ولا يفكر فى أنه يضايقك وغالباً مشغول بممارسة ألعاب الموبايل، لا يهتم إن كنت تعطلت أو أن أولادك لا يتمكنوا من النزول أو إن عجوزا ستضطر للنزول فى المحطة القادمة بسبب تعطيل النطع لها.
هؤلاء «الهؤلاء» تجدهم يغلقون الشارع خاصة فى الملف أو الدوران ويتركون سياراتهم أو تكاتكهم غير مبالين إن كانوا يعطلون غيرهم أم لا، وقد يكون أحدهم سائق أوتوبيس فيقف فى أى مكان لينزل الركاب أو ليلتقطهم بدون مناسبة.
هؤلاء «الهؤلاء» قد يكونوا من الحرفيين فيهملون مواعيدهم معك فتنتظر أحدهم لكنه يفوت الميعاد بدون اعتذار أو إبداء الرغبة فى التأجيل فيضيع يومك وتضيع أعصابك معه وربما تكون فى حاجة إلى هذا الوقت لإنجاز عمل ما، بينما لا يعرف هؤلاء «الهؤلاء» فضيلة إبداء الأسف والاعتذار فهم لم يتربوا على الأدب والأخلاق.
نماذج هؤلاء «الهؤلاء» لا تعد ولا تحصى وهى تنمو وتتكاثر فى أجواء التخلف والفساد، حيث لا عقاب اجتماعياً أو وظيفياً، وحتى ولو قتلت هؤلاء، سيظهر آخرون من «الهؤلاء» سيقتلونك غيظاً وكمداً ولن تعرف من هم «الهؤلاء» ولن ينتهى «الهؤلاء».