رفعت رشاد يكتب: سيزيف بين الحكيم وكامي (2 – 2)
يواصل الكاتب الكبير رفعت رشاد ما بدأه أمس فى الجزء الأول من هذا المقال: “سيزيف بين الحكيم وكامي”، باحثا عن العلاقة الموضوعية بين بطل مسرحية توفيق الحكيم “الصرصار” والمعادل الموضوعى “سيزيف” بطل كتاب المفكر الفرنسى ألبير كامى، وينتهى رشاد من مقارنته إلى رأى أخر ، لا يصل إليه إلا مثقف واسع الاطلاع، صاحب رؤية.. تعالوا نعرف التفاصيل من المقال المنشور فى صحيفة “الوطن” وهذا نصه:
هل كان صرصار توفيق الحكيم هو نفسه سيزيف الذى عاقبته الآلهة على ما فعله معها وحكمت عليه بأن يمضى عمره فى رفع صخرة إلى أعلى الجبل وبعد أن يصل بها إلى القمة تسقط مرة أخرى وهكذا يعيد رفعها وتسقط مرات ومرات إلى ما لا نهاية؟.
هل الصرصار الذى بقى اليوم بطوله يحاول تسلق جدار البانيو الأملس ويعيد المحاولة مرات ومرات هو سيزيف؟.
ألّف كامى عام 1940 كتابه عن «أسطورة سيزيف» فى وقت كانت أوروبا فى حالة ارتباك وهى فى حرب ضروس كان من نتائجها هدم قيم وأفكار وفلسفات عاشت عليها البشرية قروناً طويلة.
يناقش كامى فى كتابه مسألة الانتحار والأسباب التى قد يقدم الإنسان بسببها على الانتحار، إن الانتحار يحدث أو يبدأ التفكير فيه عندما يبدأ الشعور باللا جدوى للحياة، عندما يفقد الإنسان شعوره بمبررات وجوده على وجه الأرض.
إن الانتحار لم يتم بحثه من قبل إلا كظاهرة اجتماعية قد يضغط الفرد فيها على الزناد أو يلقى نفسه من أعلى بناية أو تحت مركبة أو قطار.
فى كتابه يناقش كامى المسألة أو يرجعها إلى اللا جدوى التى يشعر بها إنسان ما تجاه الحياة فيكون قراره بالانتحار.
ويرى كامى أن قرار الانتحار يرقى إلى منزلة الاعتراف بأن الشخص لا يفهم الحياة أو أنه يراها كثيرة عليه.
هذا بالضبط الشعور باللا جدوى عندما يحس الإنسان بأن الوطن ضائع أو أن الآمال تبخرت فيحدث طلاق بينه وبين حياته.
وعلى العكس من ذلك، يرى كامى أن سيزيف هو بطل اللا جدوى، فهو محب للحياة، شغوف بتفاصيلها، لذلك خدع ملك الموت وقيده حتى لا يقبض أرواحاً أخرى، وبقيت الدنيا لفترة دون أموات لأن ملك الموت عاطل عن العمل بسبب ما فعله سيزيف.
وحكمت الآلهة على سيزيف بأن يعيش للأبد يرفع الصخرة إلى قمة الجبل ثم تسقط الصخرة ليعيد سيزيف رفعها دون كلل أو ملل ودون نهاية للأمر.. هل نتذكر صرصار الحكيم؟.
لنتخيل سيزيف يبذل مجهوده مسخراً كل جسده لرفع صخرة كبيرة ودفعها نحو الأعلى ووجهه متوتر وخده ملتصق على الحجر وكتفه تسند الصخرة وساقاه تحاولان التثبت فى الأرض، وبعد أن ينجح فى الوصول إلى هدفه، تتدحرج الصخرة أمام عينيه عائدة إلى السفح مرة أخرى، وعليه أن يعاود النزول إلى السهل وتكرار رفعها مرة أخرى إلى قمة الجبل.
ولو فسرنا حالة سيزيف تفسيراً ماركسياً سنجد أنه مثل عامل ينجز نفس مهامه كل يوم فى حياته وهو يدرك مأساته وتعاسته، وهذا الإدراك يجعل منه أسطورة، لكن سيزيف يعتبره الفكر الماركسى بروليتارى الآلهة العاجز، وفى نفس الوقت المتمرد لأنه يحتقر مصيره ولكنه يعيش الحياة رغم لا جدواها.
لم يكن سيزيف تعيساً تعاسة تامة، كان لديه الشعور بالسعادة الصامتة ومنبعها أنه يمتلك مصيره وحتى الصخرة صارت له، أى إنها شىء يخصه وهذا هو الشعور الإنسانى باللا جدوى.
إن مغزى أسطورة سيزيف أنه ليس بالضرورة أن يصل الإنسان إلى هدف فى حياته أو يحقق إنجازات من نوع ما، لأن هدف الحياة الأسمى هو الحياة ذاتها ومواجهة الإنسان مصيره وقدره، وهو عندما يكافح ويناضل ويتمرد ويثور إنما يصنع نفسه ووعيه وقدره الخاص.
يكشف كامى فى كتابه أن الأسطورة لم تكن إلا نوعاً أو وجهاً آخر للتأريخ للإنسان نفسه قبل أن تصله الأفكار الفلسفية والدينية.
هل وجدت علاقة ما بين سيزيف الحكيم وسيزيف كامى؟.