د. ناجح إبراهيم يكتب يوميات عيادتي (34) تاجر الماشية.. والبخل

بيان
كتب د. ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان “تاجر الماشية .. والبخل” وتم نشره في جريدة الشروق السبت وهذا هو نص المقال:
تاجر الماشية .. والعيون الخضراء

• كان دوماً يحضر لعيادتي بعد أن يتفاقم مرضه فألومه علي الانتظار فلا يأبه بذلك , يحضر دوماً في نهاية عيادتي وبعد انصراف الممرضة ليقول دوماً أنه فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئاً وبالتالي لا يدفع أجر الكشف أبداً .
• لا أهتم بذلك وأفحصه مثل غيره , فإذا بدأت كتابة الأدوية ” الروشتة ” استوقفني بسؤالين متكررين : إذا كانت هذه الأدوية عندك فأعطها لي لأنه لا طاقة لي بشراء الأدوية , فأقول له : الطبيب يكون عنده من الروشتة عادة عينة أو اثنين علي الأكثر , ولا يمكن أن يكون لديه كل أدوية المريض وإلا تحول لصيدلية .
• امنحه ما عندي وأنصحه بشراء الباقي , فينتفض مذعوراً : هذا العلاج , كم ثمنه ؟ وهل هو رخيص أم غالٍ ؟ فأجيبه أسأل الصيدلي وأشعر أنه يعيش كارثة لمجرد شرائه لعده أدوية رخيصة جداً وفي متناول الجميع , لم يكمل يوماً علاجه أبداً فهو يضن بماله عن شراء العلاج كله أو الاستمرار فيه .
• ظل كذلك حتى جاءني بالأمس مع زوجته في وجود السكرتيرة حاول الدخول مجاناً فقالت له بعد أن نظرت إليه نظره فاحصة: هذا من شأن الدكتور ؟ هذه أول مرة يدفع في حياته , يبدو أنه أحرج لوجود زوجته معه .
• هو شاب وسيم , يرتدي ملابس جميلة , في شرخ الشباب , هذه أول مرة يحضر في هذا الوقت ومعه زوجته .
• تحدثت وهو جالس أمامي تليفونياً مع تاجر أغنام لشراء الأضحية قفز في الحديث قائلاً : عندنا كل الأضاحي خراف وماعز وعجول , نحن نربي ونبيع ونتاجر فيها , والخراف بكذا وكذا , والأغنام بكذا وكذا , ذهلت من المفاجأة هل هذا ابن تاجر كبير للأغنام والماشية التي تجعل تجارها في غني ويسر , وإذا كان كذلك لماذا يبتذل نفسه طوال هذه السنوات .
• بعد أن تحدثنا سوياً في أمر وسعر ونوع الأضحية واستعداده أن يحضرها لي فوراً في العيادة , كرر نفس الأسئلة التي كان يسألها من قبل , بداية بطلب إرجاع الكشف ومنحه الأدوية وغيرها ؟ والشكوى من ثمن الروشتة حتى قبل أن تكتب .
• استرجعت شريط ذكرياته معي وقلت في نفسي : هل هذا تاجر الماشية الذي يتسول كل شيء ولا يريد أن يدفع مليماً في أي خدمة تقدم له ؟ والآن سيحاسبني علي الخروف أو الجدي بأعلى أسعار السوق , وهو ووالده وأسرته من كبار مربي الماشية في منطقة العيادة .
• الغريب أنه كلما قابلت أحداً من أصحاب العيون الخضراء أجده بخيلاً ؟ حتى السيدات ذوات العيون الخضراء , أجدهن بخيلات أيضاً ؟ لا أدري هل هو انطباع خاطئ عندي أم مجرد مصادفة معي ؟ كل امرأة أو رجل أبيض وعيونه خضراء أجده وأجدها شحيحة ؟ قد تكون فكرة خاطئة عندي ولكن كل يوم أجدهم من نماذج البخل الشديد .
• تكرر ذلك معي مراراً وخاصة من السيدات , معظمهن يردن الكشف مجاناً , ليس لفرد في الأسرة ولكن لعدة أفراد , ولا يكتفين بذلك بل يطلبن العلاج أيضاً .
• إحداهن كانت تحضر دوماً للكشف علي نفسها وأولادها الثلاثة مجاناً بزعم أن زوجها فقير جداً ” وعلي باب الله ” وهي جملة مصرية شهيرة مقصودة للغموض في أمر عمل الزوج , ثم تطلب العلاج لهم جميعاً ثم تطلب علاج للكحة لزوجها الذي لم يحضر رغم أن أمراض الصدر ليست تخصصي .
• وفي يوم من الأيام فوجئت بها تدفع ثمن الكشف وحدها ولا تطلب شيئاً , استغربت لذلك ولكن الغموض زال حينما علمت أن زوجها معها ودفع الكشف وحده دون طلب من أحد , اكتشفت بعدها أنه يعطيها ثمن الكشف دوماً , وهذا تكرر مع عدة زوجات .
• وكانت عندي مريضة تكشف علي ابنها دائماً وقلت لها بعد عدة أشهر أنه سليم تماماً , وكانت لا تدفع أبداً وكان أجرى وقتها عشرين جنيهاً ولا أهتم بذلك , لم تصدقني أن ابنها أصبح سليماً معافي , قلت لها : ستجعل الأستاذ الدكتور فلان حكماً في هذا الأمر وهو أكبر وأشهر أستاذ في هذا التخصص , خذي كتابي هذا هدية وأذهبي به إلي المستشفي وسيفحص ابنك هناك مجاناً , فلما رآها قال أذهبي به إلي العيادة , ذهبت للعيادة ودخلت بالكتاب والطفل , فأعطته الكتاب فقال لها اشكريه كثيراً بعد أن قرأ الإهداء , فلما حدثته في أمر الطفل قاطعها آمراً أن تدفع الأجر في الخارج , فدفعته صاغرة وكان قرابة ثلاثة أضعاف الكشف عندي , ثم قال باقتضاب لها بعد الفحص : ابنك سليم وكلام د/ ناجح صحيح.
• حكت لي كل ذلك وأنا استغرب كيف أنها دفعت سريعاً دون نقاش ولا مجادلات أو مناقشات كانت السيدتان من ذوات العيون الخضراء أيضاً .
• هذا الشاب من أصحاب العيون الملونة أيضاً والغريب أن بعض أصحاب العيون الخضراء مهما كانوا أغنياء فإن البخل يكاد ينطق من كل تصرفاتهم وأفعالهم , آخر شيء كنت أتصوره أن يكون هذا الشاب من تجار ومربي الأغنام والماشية .
• لقد خلصت من حياتي أن الزوج المدمن أو البخيل لا يصلح للعشرة الزوجية لأن الزوج قائد الأسرة والإدمان يدمر عقله ومشاعره وتصرفاته , والبخل يخل بصلاحياته للقيادة, ولذلك رفض الرسول ترشيح أحد الأشخاص للقيادة لعلة واحدة هي ” البخل ” قائلاً : وهل هناك داء أدوي من البخل .
• لقد شاهدت عملياً أن البخل يخل بالمروءة ويدمر الكرامة الإنسانية ويحول الزوج إلي نسخة مبتذلة , والكرم يرفع هامات الرجال عالية , ويمسح العيوب , ويفرج الكربات ويزيل العداوات , ويحل الخلافات , سلام علي الكرماء .

اقرأ أيضا للكاتب:

د. ناجح إبراهيم يكتب: لبيك اللهم لبيك

 د. ناجح إبراهيم يكتب: هتافات التوحيد

زر الذهاب إلى الأعلى