أمل محمد أمين تكتب: باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب
بيان
لا أعرف السبب لكن طوال الأسبوع المنقضى ، سيطرت على عقلي فكرتين الأولى دور الإعلام في تعزيز وعي المجتمع وبناء هويته، والثانية مسلسل سفاح الجيزة وما أثاره من زوبعة في مصر.
والحقيقة أن سفاح الجيزة وجرائمه وقدرته على التخفي وانتحال الشخصيات كان أكثر إثارة من أفكار ويلبر شرام Wilbur Schramm عن دور الإعلام في تنمية المجتمع.
وشرام عالم كان له أفكار رائدة عن دور الإعلام في التنمية في كتابه المعروف “دور الإعلام في الدول السائرة في طريق النمو” ويرى “شرام” أن هذه الوسائل هي المصادر الرئيسية للأخبار.
كما أننا نتعلم عن عمد أو غير عمد من خلال وسائل الإعلام.
ويضيف “شرام” إلى تلك الوظيفة، قيام وسائل الإعلام بتركيز الانتباه على قضايا معينة، وبعث المصالح عن طريق خلق جو ملائم للتنمية.
كما تستطيع هذه الوسائل أن تهب الاعتبار للفرد عن طريق الإشارة إليه وتمييزه، وأن توسع الحوار السياسي، وأن تساعد على فرض معايير اجتماعية، وتكوين الذوق، وتعديل المواقف.
ويذهب “شرام” إلى أن هناك ثلاث وظائف أساسية للإعلام ترمي كلها إلى التعجيل بالتنمية وهي كالتالى:
وظيفة الاكتشاف: ووفقا لتلك الوظيفة تقوم وسائل الإعلام بكشف أنماط وسلوكيات غير التي ألفها الشعب والمجتمع ويكشف الإعلام طرقا تنموية جديدة تدفعهم في غالب الأحيان إلى تغيير سلوكاتهم أو على الأقل الاحتكاك بطرق جديدة تمكن من تحقيق التنمية.
ووظيفة سياسية والإعلام هنا يبلغ الناس رغبة السلطة في التغيير وفي التنمية، ويشرح الاعلام ما تقوم به السلطة حتى يحصل الاقتناع بها.
ووظيفة تربوية وهي الوظيفة المكملة للوظيفة الأولى (وظيفة الاكتشاف)، فالإعلام يعطي للجمهور نماذج من التنمية للاقتداء بها، وبهذا يعد العدة لتقبل التغيير، لأنه يخلق في الجمهور تعطشا لمزيد من المعرفة والتغلب على الجهل.
ويؤكد “شرام” على أن هذه الوظائف الثلاث تشكل الأرضية الصالحة للتنمية الحقيقية.
ونفهم من ذلك بلغة عصرنا، عصر الرقمنة، أن استدامة التنمية تفرض قيام وسائل الإعلام بالوظائف الجوهرية الثلاث، الوظيفة التربوية والوظيفة السياسية ووظيفة الاكتشاف.
ولا يمكن إنكار مدى جدية تلك الافتراضات التي وضعها شرام عن الإعلام والتنمية لكن تنطبق النظرية على وسائل الإعلام الرسمية أو المعروفة المصدر والتي تحمل رسالة محددة يمكن معرفة الهدف من وراءها لكن ماذا عن وسائل الإعلام الجديد وماذا عن الدراما وما هو دور الإعلام في كشف الحقيقة حتى لا يعيش الشعب في ظلمات الشائعات؟!
مرة أخرى اعود إلى مسلسل “سفاح الجيزة” للربط بين الفكرتين لعلي أصل بوجهة نظري إلى القاريء.
ولأوضح أكثر سأتكلم عن نقطتين الأول ارتباط المسلسل بقصة حقيقة عن رجل قتل أكثر من سيدة ورجل وقام بالسرقة والاحتيال وامتلئت صفحات التواصل الاجتماعي بكمية غير معقولة من المعلومات والتسجيلات عنه وعن عائلته حتى تاهت الحقيقة وراء كم هائل من التأويلات والغموض ولم تقم أي جهة إعلامية أو غير إعلامية ، رسمية أو غير رسمية بتوضيح الحقائق وتركت كل متابع يخلق من أحداث المسلسل وما هو موجود على مواقع التواصل الاجتماعي تفسير خاص به !.
النقطة الثانية ما هي انعكاسات إنتاج مثل هذا المسلسل على المشاهد وما هي الفائدة المرجوة منه؟! وما دور الإعلام في توجيه المشاهد نحو ما يقدمه المسلسل من رسائل؟!.
بمتابعة المسلسل وما هو معروض من حقائق حول القاتل الحقيقي يتضح أن هذا المسلسل يثير البلبلة ويشتت عقول الناس عن قضايا أكثر أهمية تستحق المتابعة ولها علاقة بتنمية بلدهم، وفي نفس الوقت يصنع المسلسل من مجرم وقاتل بطلاً تستحق حياته التسجيل والاهتمام.
وقد شد انتباهي بعض الأفكار التي يروج لها المسلسل فالبطل يقول في أحد الإعلانات التشويقية للمسلسل ” لما تسلمني نفسك وتلغي دماغك وتقدلي صوابعك العشرة كمان وافرمك يبقى أنا غلطان. ولا انت تستاهل تتفرم ويداس على وشك مية مرة الحكاية بسيطة أنت اللي عايز كدا”.
عبارة قالها بطل المسلسل في ٣٠ ثانية لكنها قد تغير معتقدات طفل أو مراهق أو أي انسان هش فهي تحفز على الغضب والعنف وتنتقد الأشخاص الذين يسلمون زمام الأمور لغيرهم مع أن هذا أمر طبيعي في كل المجتمعات وليس كل شخص مسالم يستحق القتل أو السرقة.
ما الفائدة أو الفكرة التي يقدمها المسلسل في زمن صعب زاد فيه الغلاء واستحال على الشباب تحقيق الأهداف والأحلام، ألم يخطر ببال المنتج أنه يقدم نموذج لرجل تزوج أكثر من مرة وتحصل على ثروات من الاحتيال والجريمة ؟!.
والمؤسف أن الإعلام قام بالترويج للمسلسل على نحو غير مسبوق وكأنه يقدم فكرة تربوية هادفة على الرغم أنه لا يصلح للعرض لكل الاعمار بل يفترض حجبه عن الأطفال والمراهقين.
وبدل من أن يقوم الاعلام بدوره في كشف الحقيقة المتعلقة بالشخصية الأصلية وتكرار معلومة مهمة أنه تم إعدامه وتلقى عقابه، على العكس لا يتكلم الإعلاميين إلا عن براعة الممثل وغيره من التفاهات التي تصدرت المشهد، ولم يبالي أي من الإعلاميين بتسليط الضوء على خطورة مثل هذه المسلسلات على كيان المجتمع وتشكيل أفكاره ولم يفكر أحد أن هذا المسلسل قد يخلق المزيد من السفاحين.
فهل أصبحت وسائل الإعلام باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب؟!.
فالبرامج صباحا تتحدث عن المشروعات التنموية، ومساء تلهو بعقول المشاهدين وتشتتهم بعيدا عن القضايا الهامة التي تستحق الإنتباه والمعالجة ، فما أحوجنا إلى إعلام هادف يمتلك أدوات تشويقية تجذب الإنتباه وتساعد على تحسين سلوكيات الناس واستبدال المشين بالحسن.
ومتى ستتوقف وسائل الإعلام الأكثر شعبية عن الانسياق وراء الترفيه والتفاهات والحشو الفارغ الذي ساهم في ضياع الفكر وانحدار المجتمع؟!.