أيمن عبد المجيد يكتب: مصر والقضية الفلسطينية ومؤامرات الصهيونية (1)
بيان
لم يعد هدف تفريغ قطاع غزة من سكانه، بدفعهم إلى الحدود المصرية، لتصفية القضية الفلسطينية، بهدف خاف على أحد، وفى مقال شارح يوضح الكاتب الصحفى أيمن عبد المجيد البعد التاريخى فى هذه المؤامرة الصهيونية، وينطلق من الماضى ليرصد الحاضر، ويستجلى المستقبل على خلفية الحرب الانتقامية الشرسة، وهجمة الإبادة الجماعية، التى ترد بها إسرائيل على عملية “طوفان الأقصى” ، وفى التالى نص المقال المنشور ببوابة “روز اليوسف”.
«نأسف لعدم استطاعته الضغط أكثر من ذلك على الحكومة المصرية لدفعها لتغيير موقفها»، كان ذلك نص برقية من الخارجية البريطانية، إلى «تيودور هرتزل»، مؤسس الحركة الصهيونية، الذي لجأ إلى بريطانيا للضغط على مصر عبر اللورد كرومر، لإقامة مستوطنات صهيونية في سيناء بتوقيع ميثاق استعماري يمنح الحركة الصهيونية ضمانات استغلال النفط والثروات لمدة 99 عامًا.
من جديد أُذكر، لو أن للتاريخ عينين ولسانًا وشفتين، لاستلقى على ظهره من فرط السخرية من هؤلاء الذين لم يطالعوا أحداثه، ولم يستوعبوا دروسه، ثم وقف صارخًا فينا: لست مجرد حوادث وأحداث، قصص وروايات، انكسارات وانتصارات، بل قلبٌ نابضٌ، يضخ الدروسَ والعظات، في شرايين العقول الواعية، علها تستقي من الماضي خبراته؛ لتواجه الحاضر بتحدياته، أمَلًا في بلوغ مُستقبل أفضل بتوقعاته.
القصة سيناء، والمؤامرة تعود إلى أكثر من 125 عامًا، محاولات متكررة لسلخ سيناء، عن جسد الأم مصر، تلك الدولة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ مسافة تتجاوز السبعة آلاف عام، حباها الله بموقع جيوسياسي، جعلها حلقة الوصل بين قارات العالم، آسيا وأوروبا وإفريقيا، وعمود الخيمة العربية، سيف الأمة ودرعها.
وهناك على بوابتها الشرقية، في الشام على مقربة من حدودها الشرقية، كانت دفاعات أمنها القومي، والانتصارات العربية على أخطر وأقوى الإمبراطوريات الاستعمارية، هزم صلاح الدين بجيش مصر الحملات الصليبية، وهو تحالف الممالك الأوروبية، وهي اليوم حلف الناتو بقيادة أمريكا.
يشهد التاريخ، أن سياسات مصر العسكرية دائمًا دفاعية، حماية لأمنها القومي، والأمن القومي العربي، في مواجهة أطماع توسعية لقوى استعمارية، واجهت الصليبيين والمغول والتتار والفرنسيين والبريطانيين والصهاينة حديثًا.
يواجه الأمن القومي المصري، تحديًا هو الأخطر على مدار تاريخ مصر، وبالتبعية الأمن القومي العربي، فالتهديدات على ثلاثة اتجاهات استراتيجية في وقت واحد، غربًا اشتعال الأوضاع في ليبيا، أضعف قدرة مؤسساتها على حفظ أمن الحدود، وجنوبًا الصراع المسلح في السودان، ينتهي للتحدي ذاته، بينما الخطر الأكبر شرقًا بما تشهده غزة الآن من عدوان صهيوني إجرامي، وضغوط على سكان القطاع لتهجيرهم إلى مصر.
وبعيدًا عن تقييم عملية طوفان الأقصى، من حيث التوقيت والأهداف والأسباب، والانفراد بالقرار بعيدًا عن السلطة الفلسطينية، فإن الرد الصهيوني واستثماره للحدث، والدعم القوي من حلفائه في مقدمتهم الأمريكان، يستهدف تدمير القطاع، وبنيته التحتية، وقطع كل سُبل الحياة عن 2 مليون مواطن فلسطيني، بينهم الشيوخ والنساء والأطفال والمرضى، لإجبارهم تحت القصف وسياسات التجويع للهجرة إلى سيناء. وهو المخطط الذي يدركه كل مصري واعٍ، وتتصدى له مصر الرسمية والشعبية، لسببين:
الأول: أن السماح بذلك يعني تفريغ قطاع غزة من سكانه، لحساب المحتل الصهيوني، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية، والتهام الاحتلال كامل فلسطين التاريخية، وتبخر حلم إقامة دولة فلسطينية مُستقلة عاصمتها القدس، على حدود 4 يونيو 1967.
الثاني: أن مصر لن تفرط في حبة رمل من أرضها، وعلى قيد الحياة مواطن واحد من 110 ملايين مصري، فعلى مر التاريخ رويت سيناء المُقدسة بدماء الشهداء المصريين دفاعًا عن استقلالها في مواجهة مطامع الأعداء، وستظل مصرية بعون الله حتى يرث الأرض ومن عليها. إن مصر الداعم الأول والدائم والأشرف، للقضية الفلسطينية والأشقاء المرابطين، فقد أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسي القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية في حفل تخريج طلاب الأكاديمية والكليات العسكرية بكلمات واضحة، وعبارات لا تقبل التأويل: «دعمنا للقضية الفلسطينية عقيدة راسخة في الضمير المصري، وسنقدم كل الدعم للشعب الفلسطيني للصمود على أرضه».
وهنا السؤال الذي يوجه للعالم الذي يصف نفسه بالمتقدم والحضاري، أين أنتم من المجازر التي ترتكب بحق المدنيين في فلسطين، أين أنتم من جرائم الحرب، آلاف الأطنان من المتفجرات تلقى على رؤوس المدنيين أطفال ونساء وشيوخ؟!
أين ضمير الغرب من مخططات التهجير القسري، وسياسات الإبادة الجماعية بالاستهداف والتجويع، وقطع المياه واستهداف الأطقم الطبية، والامتناع عن فتح ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية والطبية؟! أين كان ضمير العالم من مواصلة الاحتلال التهام الأراضي الفلسطينية، بإقامة ما يسمى مستوطنات، وأين كنتم من اعتداءات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، المتكررة على المسجد الأقصى، ولماذا صمت أمريكا آذانها عن تحذيرات العقلاء من أن تلك الانتهاكات ستقود الأوضاع للانفجار؟
أين منظمات حقوق الإنسان العالمية، من الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسانية على مدار سبعة أيام مخلفة أكثر من 2500 شهيد، وأكثر من 8 آلاف جريح، 60% منهم أطفال ونساء؟! أم أنها أذرع مخابراتية تخصص تقارير تستهدف ابتزاز الأنظمة العربية؟ ربما الإجابة تكمن في تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن، ذلك العجوز المُعترف: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها».. إنها الحقيقة، كيان زُرع في المنطقة لأداء وظيفة تخريبية. عاد جو بايدن بذاكرته لدوره المساند لجولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، تلك التي هرعت تستنجد بأمريكا لإنقاذ الكيان من الانهيار، عقب الصفعة المدربة التي وجهتها لهم مصر في أكتوبر 1973، متفاخرًا بأن له صورًا معها.. متاجرة انتخابية لكسب اللوبي الصهيوني.
لكن السؤال: هل الدعم الأمريكي للاحتلال في مواجهة حماس، يستوجب تحريك حاملة طائرات أمريكية محملة بالذخائر وسفن حربية إلى المياه الإقليمية العربية؟! والتهديد بإرسال حاملة طائرات ثانية؟ أم أن المخطط والأهداف أكبر من ذلك بكثير؟!
هل حضور لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي، أمس، إلى إسرائيل، وفتح جسر دعم عسكري بالأسلحة والذخائر، يُناسب صراع جيش الاحتلال مع حركة؟ وهل مقبول أن يطلب أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي- الذي زار عواصم عربية- أن تسمح مصر للأجانب بمغادرة قطاع غزة عبر معبر رفح، متجاهلًا مطالب مصر والعرب، ممارسة أمريكا الضغط على الاحتلال لفتح ممر آمن لتقديم المساعدات الإنسانية والطبية؟!
إن المخطط أكبر بكثير مما يظنه البعض، فهناك حزمة من الأهداف، يسعى الاحتلال الصهيوني، وأمريكا وداعموه الغربيون لتحقيقها، ذات أبعاد جيوسياسية، واقتصادية، والخريطة الجديدة للشرق الأوسط والقوى الدولية التي يجرى رسمها. ربما ذلك ما دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي، للتصريح مؤخرًا بأن التحديات الراهنة تستوجب أن يكون الشعب المصري، واعيًا بتعقيدات الموقف، مدركًا لحجم التحديات التي تواجه الأمن القومي المصري. وتشديد الرئيس في الوقت ذاته على «أن أمن مصر القومي مسؤوليته الأولى، ولا تهاون أو تفريط فيه تحت أي ظرف».
فما يحدث في غزة من استهداف متواصل للمدنيين، وتجفيف كل منابع الحياة بقطع المياه وإمدادات الوقود، وقصف البنية التحتية والمستشفيات، المماطلة في الاستجابة لمطالبات فتح ممرات آمنة للمساعدات، مع توجيه المحاصرين بالتوجه نحو الحدود المصرية، يكشف مخطط التهجير إلى سيناء. وتستهدف إسرائيل وحلفاؤها من ذلك:
١- تصفية القضية الفلسطينية، بإخلاء القطاع من سكانه، ومن ثم ضمه للأراضي الفلسطينية المحتلة، والتهام القدس، وتكرار السيناريو ذاته مع سكان الضفة الغربية.
٢- خلق توتر في سيناء، يعوق خطط إعمارها ويخفض معدلات أمن الملاحة في قناة السويس، لصالح مشاريع منافسة، ومن ثم خفض عوائدها وإعاقة التنمية على محوريها.
٣ – تعطيل مشاريع تنموية لقوى دولية منافسة للأمريكان كطريق الحرير الصيني، المقرر أن يمر عبر سيناء إلى إفريقيا وتأسيس مراكز صناعية لوجستية في مصر، لحساب طريق أمريكي يمر عبر إسرائيل.
٤- خلق حالة توتر في الداخل المصري، في فترة انتخابات رئاسية، عبر محاولة التحريض على الموقف الرسمي المصري، عبر العناصر المعادية ووسائل الإعلام العميلة.
كل تلك الأهداف المركبة، لمخططات وتحديات، قهر الوعي العام الشعبي المصري، مراحلها السابقة، ربما أشار إليه الرئيس السيسي في تشخيصه للوضع خلال كلمته التي حملت رسائل بليغة في حفل تخرج طلاب الأكاديمية والكليات العسكرية، ذكر أن التطورات الأخيرة شديدة الخطورة، «وسعي دؤوب من أطراف متعددة للحيد بالقضية الفلسطينية عن مسارها – الساعي لإقرار السلام، القائم على العدل، وعلى مبادئ «أوسلو»، والمبادرة العربية للسلام- إلى صراعات صفرية، لا منتصر فيها ولا مهزوم، صراعات تخل بمبادئ القانون الدولي والإنساني، وتخالف مبادئ الأخلاق.
وهنا يشير الرئيس إلى ضرورة العودة للمفاوضات، لانتزاع حق الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو 1967، فـ«كل صراع لا يؤول إلى السلام، هو عبث لا يعول عليه».
الوعي الشعبي، بالغ الأهمية، فمصر تخوض معركة دبلوماسية شرسة، لدعم صمود الأشقاء على أرضهم، وإحباط مخطط تصفية القضية الفلسطينية، تلك المعركة ساحتها الأمم المتحدة، والتواصل مع كل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، لإيقاف آلة الدمار وإنقاذ الأبرياء المدنيين، وإحباط مخطط تهجير الفلسطينيين.
إحباط المخطط يكون بتوفير سُبل البقاء على قيد الحياة في القطاع، بتقديم المساعدات الطبية والغذائية، مصر جهزت القوافل، وتبرع المصريون بالدماء، متمسكة بتوفير ممرات آمنة للمساعدات، بالتزامن مع السماح بخروج أجانب عبر معبر رفح. المواجهة بإيقاظ الوعي، قال الرئيس السيسي لشعب مصر والعالم: «إن حكم التاريخ وقواعد الجغرافيا، قد صاغوا ميثاق الشرف العربي، في وجدان الضمير المصري ما جعل مصر دائمًا وأبدًا، في صدارة الدفاع عن الأمة العربية مقدمة الدماء والتضحيات، باذلة كل ما تملك، من أجل الحق العربي المشروع».
وشدد الرئيس: «حين كانت الحرب، فكنا مقاتلين، وكان السلام فكنا له مبادرين، لم نخذل أمتنا العربية ولن نخذلها أبدًا». وفي رسالة لا تخطئها عين حذّر الرئيس رعاة التصعيد من أن تجاهل مواصلة استهداف المدنيين وتجاهل العودة إلى المسار التفاوضي، سيؤدي إلى اشتعال حرائق «لن تترك قاصيًا أو دانيًا إلا وأحرقته».
ولقد قالها الرئيس بحسم: إن سعي مصر للسلام، واعتباره خيارها الاستراتيجي، يحتم عليها ألا تترك الأشقاء في فلسطين الغالية، وأن تحافظ على مقدرات الشعب الفلسطيني الشقيق، وتأمين حصوله على حقوقه الشرعية.
وشدد الرئيس: «هذا هو موقفنا الثابت والراسخ وليس بقرار نتخذه، بل هو عقيدة كامنة في نفوسنا وضمائرنا.. يجب توفير أقصى حماية للمدنيين من الجانبين فورًا، والعمل على منع تدهور الأحوال الإنسانية، وتجنب سياسات العقاب الجماعي والحصار والتجويع والتهجير».
هذا هو موقف مصر، وعقيدتها الراسخة في نفوس قيادتها وشعبها والضمير الجمعي المصري، لا تفريط في دعم الأشقاء وحقوقهم، ولا تفريط في حبة رمل من أرض مصر، وكما تصدت مصر بحسم قيادتها ووعي شعبها لكل المؤامرات السابقة، ستنتصر على التحديات الراهنة، تتعامل بهدوء وصبر ونفس طويل.
لن تفلح ضغوط أمريكا اليوم، ومؤامرات الصهاينة مصيرها الفشل، كما كان من قبل، فكما أرسل اللورد كرومر المعتمد البريطاني يونيو 1903 إلى حكومته يقول: «يجب صرف النظر عن الموضوع»، لتبلغ بدورها تيودور هرتزل: «نأسف لعدم استطاعته الضغط أكثر من ذلك على الحكومة المصرية لدفعها لتغيير موقفها»، فإن أمريكا ستبلغ نتنياهو بإذن الله: «يجب صرف النظر عن خطة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مصر لن تتزحزح عن موقفها ونجحت دبلوماسيتها في صناعة رأي عام دولي مؤيد لموقفها».
عن أصل المؤامرات الصهيونية وأطماعهم في سيناء، وخطة «بالمرستون» لإقامة حاجز بشري يحول دون تواصل مصر مع دول الشام، ونشأة القضية الفلسطينية، ومواقف الدعم المصرية.. للحديث إن شاء الله بقية.