محمد قدرى حلاوة يكتب: الأطفال الخدج بين فلسطين والعراق

بيان

( أطفال خدج )

عندما رن في أذني لفظ ” الأطفال الخدج” وجال بصري بين القنوات أعاين ألمهم وموتهم البطئ.. عادت بي الذاكرة نحو ثلاثة وثلاثون عاما حين سمعت هذا اللفظ يتردد بقوة في وسائل الأعلام ربما لأول مرة.. واصفا مأساة أخرى أدعت تلك الوسائل أنهم – الأطفال الخدج – قد ذهبوا ضحية لها.. ولأن ” آفة حارتنا النسيان ” كما وصف العم ” نجيب محفوظ” أخطر أمراضنا الحضارية.. فلعل العودة لتلك السنوات البعيدة ورصد أحداث هذه الأيام القريبة.. تكون مفيدة للإطلال بصورة دالة وموثقة على كيفية عمل وسائل الأعلام ورسالتها وتشابكات مصالحها وعلاقاتها وتمويلها..والتي تحتم على المرء أن يتحسس عقله كلما قرأ أو حتى شاهد وعاين خبرا مبثوثا.. وينمو ذلك الحذر كلما أنتشر هذا الخبر وزاد معدل تردده وتوغله ليرتدي بعدها ثوب اليقين .. ويرسخ جذور الكذب بنيانا سامقا زاهيا بقداسة الحقيقة المطلقة..

( المشهد الأول ١٩٩٠)

بعد أجتياح القوات العراقية الكويت في الثاني من “أغسطس / آب” عام ١٩٩٠..قامت شركة “هيل أند نولتون” وهي اكبر شركة للعلاقات العامة في العالم بدور العقل الموجه لحملة علاقات عامة هائلة لإقناع الأمريكيين بضرورة مساندتهم للحرب لأسترداد ذلك البلد ( الكويت) من العراق.. معظم المال الذي أنفق على حملة تسويق الحرب أتى من الحكومة الكويتية التي أصبحت حكومة منفي.. والتي وقعت عقدا مع “هيل اند نولتون” بعد تسعة أيام من زحف جيش ” صدام” إلى “الكويت”..

في العاشر من ” أكتوبر / تشرين أول” عقد ” المؤتمر التحضيري لحقوق الإنسان” في “الكونجرس” جلسة أستماع في مبنى “الكابيتول”.. الشهادة الأكثر تأثيراً عاطفياً أنت من فتاة “كويتية” في الخامسة عشرة من عمرها.. وقد تم تعريف تلك الفتاة باسمها الأول فقط: “نيرة” وطبقاً لمداولات المؤتمر التحضيري، فقد اتفق على إبقاء الاسم الكامل للمدعوة” نيرة” طي الكتمان للحؤول دون الأعمال الانتقامية التي قد يقوم بها “العراقيون” ضد عائلتها في” الكويت” الواقع تحت الاحتلال..من بين دموعها ونشيجها،. وصفت ما رأته بعينيها في أحد المستشفيات في مدينة” الكويت”.. شهادتها المكتوبة مررت إلى وسائل الإعلام ضمن رزمة دعائية جاهزة أعدتها مجموعة” مواطنون من أجل كويت حر”.. “تطوعت للعمل في مستشفى العدان قالت نيرة.. ثم أضافت : وبينما كنت هناك، رأيت الجنود العراقيين وقد جاءوا إلى المستشفى بأسلحتهم، ثم دخلوا إلى الغرفة حيث…. كان الأطفال الخدج في الحاضنات. أخرجوا الأطفال الخدج من الحاضنات وأخذوا الحاضنات، وتركوا الأطفال الخدج يموتون على الأرضية الباردة”.. استمرت في روايتها تلك زاعمة أن ذلك قد حدث لـ” مئات الأطفال الخدج” ..

ثلاثة أشهر مرت بين شهادة” نيرة” وبداية الحرب خلال تلك الأشهر، تكرر سرد قصة انتزاع الأطفال الخدج من حاضناتهم وأعيدت مراراً وتكراراً.. الرئيس” بوش” نفسه روى القصة. وقد اعتبرت تلك القصة حقيقة في شهادة أمام” الكونجرس” وعلى شاشات التلفزة وفي برامج الحوارات الإذاعية، وفي “مجلس الأمن “التابع “للأمم المتحدة” “منظمة العفو الدولية” كررت تلك المزاعم في تقريرها عن حقوق الإنسان الصادر في شهر “كانون الأول/ ديسمبر” ١٩٩٠.. وذكرت “أن أكثر من ٣٠٠ طفل حديث الولادة ذكر أنهم ماتوا بعد أن انتزعهم الجنود العراقيون من الحضانات التي نهبوها بعد ذلك ”

من بين جميع الاتهامات التي قدمت ضد الدكتاتور قال” ماك أرثر” “لم يكن لأي منها تأثير على الرأي العام الأمريكي أكثر مما فعله اتهام الجنود العراقيين بأنهم انتزعوا ٣١٢ طفلاً حديث الولادة من حاضناتهم وتركوهم ليموتوا على أرضيات المستشفى الباردة في مدينة الكويت”..في “المؤتمر التحضيري لحقوق الإنسان”،. على أية حال أخفقت هيل أند نولتون وعضو الكونجرس” لانتوس” في اكتشاف أن “نيرة” ليست سوى واحدة من أعضاء الأسرة” الكويتية” الحاكمة في الحقيقة والدها هو” سعود ناصرالصباح” سفير” الكويت” في “الولايات المتحدة” والذي جلس يستمع في الغرفة السمعية أثناء شهادتها” المؤتمر التحضيري لحقوق الإنسان” أخفق أيضاً في اكتشاف أن نائب رئيس” هيل أند نولتون” “لوري فيتز بيغادو” هو الذي ابتدع شهادة” نيرة” ودربها عليها..

بعد الحرب،. حاول محققو حقوق الإنسان التأكد من صحة رواية” نيرة” فلم يعثروا على أي شهود أو أدلة تثبت صحتها .. “جون مارتن” مراسل” أي بي سي نیوز تونايت” زار مستشفى “العدان” وقابل الدكتور” محمد مطر” مدير النظام الأساسي للرعاية الصحية في” الكويت” وزوجته الدكتورة” فايزة يوسف” التي كانت تدير وحدة التوليد في مستشفى الأمومة. وقد قالا أن اتهامات “نيرة” لا أساس لها .. في الواقع كان هناك عدد لا يتجاوز أصابع اليد من الحاضنات في الكويت إجمالاً، وبالتأكيد ليس” المئات” كما زعمت” نيرة” ولم ير أحد جنوداً” عراقيين” يسحبون الأطفال الخدج من الحاضنات..”أعتقد أنه شيء للدعاية فقط”، قال الدكتور” مطر” ..

التقرير الصحفي الذي أعده “مارتن”دفع منظمة “العفو الدولية” إلى إجراء تحقيق منفصل،. وهي التي كانت قد قبلت قصة انتزاع الأطفال الخدج من حاضناتهم حين قدمت” نيرة” شهادتها . محققو منظمة “العفو الدولية” وجدوا أن لا دليل موثوق يؤيد القصة وتراجعوا عن تقريرهم السابق “أصبحنا على قناعة … أن القصة المزعومة حول موت الأطفال الخدج بتلك الطريقة لم تحدث على النحو الذي ذكرت فيه بشكل أولي، هذا إذا كانت قد حدثت في الأصل” ، قال الناطق باسم منظمة” العفو الدولية”. .

” ميدل إيست ووتش”، وهي منظمة أخرى لحقوق الإنسان،. أجرت أيضاً تحرياتها حول القصة واستنتجت بأنها كانت خدعة. المدير المساعد لمنظمة” ميدل إيست ووتش” ” عزيز أبو حمد،” الذي قاد بعد الحرب تحقيقاً استمر الثلاثة أسابيع في “الكويت” ذكر أن البحث الخاص والشامل الذي أجرته” ميدل إيست ووتش” أظهر عدم وجود أي دليل يؤيد تلك المزاعم. “بعد تحرير الكويت زرنا كل المستشفيات الكويتية التي قيل أن تلك الحوادث جرت فيها . قابلنا الأطباء والممرضات والمدراء ودققنا في سجلات المستشفيات. زرنا المقابر أيضاً وتفحصنا سجلات مكاتب تسجيل الموتى. ورغم أننا وجدنا دلائل كافية على أعمال وحشية عراقية في الكويت، إلا أننا لم نعثر على أي دليل يؤيد الزعم بأن الجنود العراقيين سحبوا أطفالاً خدج من الحاضنات وتركوهم ليموتوا الشهود الحكوميون الكويتيون الذين أكدوا أثناء الاحتلال العراقي للكويت صحة قصة الحاضنات إما أنهم غيروا رواياتهم أو أنكروها “..

فيما يتعلق بقصة” نيرة” حول انتزاع الأطفال الخدج من الحاضنات». وطبقاً لنفس قاعدة بيانات” LexisNexis” حظيت قصة انتزاع الأطفال الخدج من الحاضنات بما مجموعه ١٣٨ إشارة في الأخبار خلال الأشهر السبعة الممتدة بين احتلال” الكويت” ونهاية عملية “عاصفة الصحراء”.. بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب،. بدأ الصحفيون بفضح الرواية الحقيقية حين زاروا المستشفيات “الكويتية” وأخبرهم موظفو
المستشفيات أن القصة كانت ملفقة. بعد عام ١٩٩٢ اختفت القصة بشكل كامل تقريباً،.حيث ذكرت بمعدل وسطي يقل عن عشرة إشارات في السنة خلال العقد التالي على أية حال، قصة انتزاع الأطفال الخدج من الحاضنات عادت للظهور على السطح سريعاً في” ديسمبر/ كانون الأول” ٢٠٠٢ وذلك حين عرض تلفزيون” إتش بي أو” دراما وثائقية تستند إلى “قصة واقعية” عنوانها مباشر من” بغداد”أعادت إلى الأذهان تفاصيل مغامرات” بیتر آرنیت” ومراسلي “سي إن إن” الآخرين أثناء عملية” عاصفة الصحراء” فيلم “مباشر من بغداد” تضمن مشاهد مسجلة” لنيرة” وهي تقدم شهادة الزور الشهيرة تاركة الانطباع لدى المشاهدين بأن القصة كانت صحيحة. واستجابة للاحتجاجات التي قدمتها منظمة مراقبة وسائل الإعلام FAIR،. اضطرت محطة تلفزيون” إتش بي أو” إلى إضافة تنصل من المسؤولية في نهاية الفيلم تعترف فيه بأن تلك المزاعم التي تقول أن الجنود “العراقيين” انتزعوا الأطفال الخدج من الحاضنات… لم تحدث أبداً .. بالطبع، لم يقرأ تلك الإشارة التي تتنصل من المسؤولية سوى القليل فقط من أولئك المشاهدين الذين قرءوا كل النصوص المنزلقة على الشاشة في نهاية الفيلم. قبل إضافة إشارة التنصل تلك،. راجع الناقد التلفزيوني في الواشنطن بوست توم شالس مادة فیلم “مباشر من بغداد” وكتب الرعب الذي حل بالكويت استعيد بقوة عبر المسلسل الذي قدمه منتج” سي إن إن” “روبرت واينر” وفريقه حين توجهوا إلى” الكويت” للتحقق من المزاعم التي ذكرت حول قيام القوات” العراقية” بانتزاع الأطفال الخدج من الحاضنات أثناء عمليات السلب التي مارسوها – هل تذكرون القصة؟”..

قد يكون من غير المنصف إفراد” شالس” بالذكر لدوره في «التذكير» بحادثة لم تحدث أبداً. حكاية” نيرة” حول الحاضنات هي بكل بساطة مزيد من الإيضاح للمبدأ المعروف منذ وقت طويل من قبل متخصصي الدعاية..وهوالمبدأ الذي يقول أن تكرار سرد الأكذوبة يجعلها مقبولة أحياناً على نحو واسع كحقيقة لا شك فيها ( ١) ..

( المشهد الثاني ٢٠٢٣)

اقتحمت القوات “الأسرائيلية” مستشفى ” الشفاء” بعد نحو أسبوعين من بداية الهجوم البري على قطاع ” غزة”.. المستشفى كان يقصف محيطه قبل أقتحامه كل يوم تقريبا.. ناهيك عن حصاره وقطع الكهرباء والماء وأمدادات الدواء والوقود والغذاء .. صورت الدعاية ” الأسرائيلية” بضعة مشاهد هزلية لسلاح” كلاشينكوف” وزي لجندي من ” حما س” وبضعة أغراض أخرى في محاولة لأيهام العالم بأن مبنى المستشفى يستخدم في أغراض عسكرية.. المحاولة اليائسة تلك المرة لم تفلح في أخفاء الفشل في أثبات السردية المتكررة عن وجود انفاق ” لحما س” وقيادتها العسكرية وبعض الأسري..

كانت هناك صور أخرى حقيقية تلك المرة لأطفال خدج يموتون يوميا لأنعدام الكهرباء المشغلة للحضانات العاطلة عن العمل.. والعالم لا يحرك ساكنا.. لكن السيد ” بايدن” طمأننا للغاية حينما صرح في مؤتمر صحفي بأن ” الجيش الأسرائيلي أحضر حضانات للأطفال الخدج ومستلزمات طبية خلال دخول مستشفى الشفاء”.. لم يقل لنا السيد ” بايدن” – الصادق دائما – كيف ستعمل تلك الحضانات المزعومة دون وجود وقود لتشغيل مولدات الكهرباء..
وأستطرد دون أن يهتز له جفن : “الملابسات تشير إلى ارتكاب حما س أول جريمة حرب من خلال إخفاء مركز قيادة عسكري أسفل مستشفى. وهذه حقيقة.. هذا هو ما حدث”.. وختم بالقول” أسرائيل تخاطر بدخول المستشفيات في ظل وجود مقرات لحما س أسفل تلك المستشفيات”..

” العراق” إذن وزعيمه الشرير ” صدام” قتل الأظفال الخدج.. و” أسرائيل ” وجيشها الشفوق يخاطر بحياته لأنقاذ أرواح هؤلاء الأطفال الخدج.. أما عن الحقيقة وقيمة تلك الأرواح في يقين من يكثر الحديث عنهم فهي مجرد أرقام تظهر في عداد حصر” ضحايا الأضرار الجانبية “.. ولا يهم الأمر إن كان هؤلاء الأطفال الخدج يموتون بالفعل.. أو أن رميم جسد الحقيقة قد دفن منذ أجل بعيد تحت طبقات ركام الأكاذيب..

……………………………………………………………….

( الهوامش)

( ١ ) ” أسلحة الخداع الشامل من ( ص ٧١ – ص ٧٩).

اقرأ أيضا:

زر الذهاب إلى الأعلى