محمد قدرى حلاوة يكتب: ” فارومايكا “
بيان
( ١ )
ما إن يرخي الليل سدوله حتى ينفض السامر وينتهي اللعب واللهو ويصعد كل منا إلى منزله.. علامات الطبشور المرسومة على الأرض البازلتية بمربعات لعبة “الأولى” باقية كما هي.. والبلاطة المنتزعة بعد جهد شاق يبرز من تحتها حفرة صغيرة تكفى للعبة “البلي” .. الليل هادئ إلى حد ما في حارتنا.. لا يعرف الصخب سوي في الدورات الكروية الرمضانية ومولد “السيدة” بطوفان البشر القادمين من كل أرجاء “المحروسة” بخيمهم البدائية وروائح الطهي وصيحات الباعة وحلقات الدراويش.. الحوانيت الصغيرة تغلق في العادة في العاشرة مساء لا يبقى مفتوحا سوي محل عم “خضير” وقد برز في قمته مصباح أبيض كبير ينشر مساحة قليلة من الضوء تنتهك حلكة الظلام بينما تبدو معركة حامية بين الكلاب في أحد الأركان وصوت نباح وعواء ملتاع.
صيف عام ١٩٧٢ ظهر محل ” عم خضير” في الحارة يعلوه لافتة عريضة ” خردوات خضير”.. كان شابا قد تجاوز منتصف الثلاثينات بقليل ذو شارب كث وشعر مهوش منفوش على طريقة “الهيبز” وملامح دقيقة حادة و “حسنة” كبيرة فوق أنفه.. أتى إلى حارتنا مستأجرا للحانوت وشقة صغيرة تعلوه في بدايات “يوليو / تموز” قادما من “المحلة الكبرى”.. كان عاملا في مصانع “الغزل والنسيج” واستقال – كما يقول أو فُصل بعد مظاهرات الطلبة والعمال “يناير / كانون ثان ” عام ١٩٧٢ بعد أن قبض عليه وأفرج عنه بعد حين .. كان يفخر دائما بأنه ” ناصري” وعضو في “التنظيم الطليعي” ولعل صور “جمال عبد الناصر ” التي تملأ جوانب المحل تثبت مقولته..
سرعان ما أصبح “مجدي” نجله الصغير صديقا أثيرا.. يشبه أمه إلى حد كبير مع قسمات وسامة بادية لا يفسدها سوي عرج طفيف أصيب به إثر حادث في الصغر.. عندما كنا ندق على باب المنزل باهت الطلاء كانت “هناء” – شقيقته – تشرئب من “الشراعة” بعنقها الدقيق وملامحها الفاتنة وهي تقول ” مين بيخبط”.. تلوح وتختفي كالقمر تماما عندما يسطع منيرا لتحجبه سحابة عابرة ليظهر لتوه.. يلوح “مجدي” مبتسما متهللا وهو “يشخشخ” بقطع ” البلي” في جيب “البيجامة” قائلا هأعلمكم النهاردة لعبة جديدة.
( ٢ )
مر نحو ثلاثة أعوام.. كبرت ” هناء” واستطال عودها واستدار.. جميلة هي في الصغر والكبر.. كانت استراحة عين.. سكينة نفس.. وثورة بدن.. لاحظنا طائفة من “النقاشين” و “النجارين” تعمل كخلية نحل لتجديد محل “عم خضير” الذي ضم إليه المحل المجاور أيضا.
أزيحت اللافتة القديمة جانبا وبقيت مكومة في أحد الأركان يرتع عليها الكلاب – ويبولون أحيانا – وحلت محلها لافتة جديدة مضاءة بأضواء باهرة “بوتيك خضير وأولاده”.. سهرت الحارة ليلة حافلة في حفل الافتتاح وسط أسلاك الكهرباء الممتدة العامرة بالمصاببح الملونة.. وصوت “الميكرفون” المسلط أمام جهاز ” الكاسيت” يردد: “حبة فوق.. حبة فوق.. وحبة تحت.. حبة تحت”..
مررنا على “مجدي” في اليوم التالي.. ظننا لوهلة أننا أخطأنا العنوان.. الباب الباهت الملئ بالشقوق صار ناعما أملسا بعد أن ألصق عليه فرخ “الفارومايكا”.. زجاج ” الشراعة” صار ملونا معشقا.. حتى ” مجدي ” فقد أتى إلينا حاملا في جيبه مالم نعهد من قبل ” طساس ” – بلية حديدية – رفض أن يبدلها معنا بعشرة “بليات”.. لم يفقد “مجدي” بساطته وسحره بعد.. لكنه صار الآن يرتدي البنطال “الجينز” والتي شيرت المكتوب عليه أرقاما كبيرة” بالإنجليزية”.. شعر بعضنا بالخجل قليلا وخصوصا من أمتلأت ” بيجامته” بالرتوق.
كنا نقف أمام” البوتيك” مشدوهين.. عالم سحري لم نعهده من قبل.. عالم صاخب من ألعاب، سحرية يموج أمامنا.. قطار كهربائي لا يكف عن الدوران.. سيارة ” البوليس” بـ “سارينتها” الحمراء والزرقاء.. المنزل الضخم المشكل بقطع ” الميكانو”.. لم تكن تبهرنا الأجهزة الكهربائية التي تبهر الكبار.. لكن بالتأكيد كنا مباغتين بالعبوات المعدنية ذاتية الفتح “سفن آب” و ” بيبسي كولا”.. كيف تفتح هكذا دون فتاحة كعصائر “قها” و ” إدفينا “؟.. ظل سؤالا حائرا لا يزيحه من الذهن سوي أحلام اليقظة بامتلاك القطار الكهربائي والدب العازف على الطبول.
( ٣ )
ربما ضاقت حارتنا على أحلام عم “خضير” التجارية والمجتمعية.. انتقل فجأة بعائلته لسكني حي” مدينة نصر”.. لعل الوداع كان مؤثرا.. لكن ” مجدي ” شرح لنا أن هناك بضعة فروع أخرى ” للبوتيك” سيتم افتتاحها هناك – وفي مصر الجديدة أيضا – وقطعة أرض أشتراها والده في شارع يدعي ” عباس العقاد” سيبني عليها عمارة كبيرة.
وعدنا بالتواصل الدائم وأن يأتي إلينا مطمئنا إيانا بأن ” البوتيك” سيظل مفتوحا يباشره إبن عمه ” لا يمكن ننسى أصلنا” – قال مجدي – وظل” البوتيك” مفتوحا بالفعل.
نسيت أن أقول أن صور عبد الناصر قد أنتُزعت من على الحوائط وحل محلها صورة كبيرة للرئيس السادات في إطار مذهب.. وبقي المنزل مظلما.. لا أحد يطل من ” الشراعة ” والأتربة عالقة على الباب ” الفارومايكا “.. ترى ما شكل الباب الذي تطل منه ” هناء ” الآن ؟!.
لا أحد يعلم التغيرات التي تصيب الإنسان ولا العوامل التي يمكنها تفسير تلك التغيرات.. النبات لا يمكن أن يقلع من جذوره.. الزرع لا يطرح سوي في أرضه وأوانه.. وصاحب المبدأ يناضل من أجله.. كل ذلك قد تغير.. يمكن اصطناع بيئة جديدة وزمان جديد.. النضال أيضا يمكن اعتزاله والمتاجرة به.. غني عن القول أن ” مجدي” لم يعد يأتي أو يسأل.. وأن هناء كانت لحظات من الحلم ذهبت وولت.. لم يأتي إلى حارتنا سوي ” عم خضير” محاطا بالأنصار.. ذابحا الذبائح.. خطيبا مفوها في “سرادق” انتخابي ضخم.. مرشحا عن حزب ” مصر” – منضما للحزب الوطني لاحقا – مشيدا بمسيرة بطل الحرب والسلام الرئيس المؤمن ” محمد أنور السادات”.. وقال أنه قد سامح من حطم ” البوتيك” ونهبه – في أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ – بل وتبرع بمبلغ ألف جنيه لمركز شباب الحي.
أكتوبر عام ١٩٨١ – وبعد إغتيال الرئيس الراحل السادات – إعلان يحتل الصفحة الأخيرة للصحف الثلاث الرسمية .. ” خضير جروب ليميتد تنعي الرئيس الراحل محمد أنور السادات سائلين المولى أن يتغمده برحمته.. وتعلن تأييدها للسيد الرئيس محمد حسني مبارك صاحب الضربة الجوية الأولى وبطل العبور ( كذا) لإستكمال مسيرة التعمير والتحرير”.. كان صوت المسجل يأتي من بعيد و ” عدوية” يغني و” الكورس ” يردد :” زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة وتاهوا الحبايب.. زحمة ولا عادش رحمة.. مولد وصاحبه غايب “.