محمد قدرى حلاوة يكتب: الأسطورة

بيان

فجر ليلة الثاني من أكتوبر عام 1980، كنت ساهرا في انتظار مشاهدة اللقاء المرتقب بين أسطورة الملاكمة محمد علي كلاي ولاري هولمز. كانت مناسبة نادرة من تلك المناسبات التي ينقلها التلفزيون المصري عن طريق البث الحي المباشر بالقمر الصناعي وأن يبث برامجه أيضا في تلك الساعة المبكرة من الصباح.

كنت أحب هذا الرجل الأسطورة وأتتبع أخباره وتاريخه. شاهدت تسجيلات للقاءاته السابقة أمام عمالقة الملاكمة فريزر وفورمان وسبينكس على ذلك الاختراع الجديد العجيب “الفيديو”. كنت أغلق باب غرفتي وأقفز مثله وأحوم مسددا ضرباتي بقبضة يدي للهواء. ومرت الساعات ثقيلة بطيئة إلى أن حان وقت المباراة في السادسة صباحا بتوقيت القاهرة.

بدأت المباراة وأنا أحملق في الشاشة وفي قمة تركيزي. كان واضحا منذ الجولة الأولى أن هناك شيئا ما غير عادي يحدث. كان لاري هولمز صاحب الواحد والثلاثين عاما يبدو شابا فتيا ملقبا بالسفاح، أمام محمد علي كلاي الذي ناهز التسعة وثلاثين عاما والذي كان قد أعلن اعتزاله في عام 1979 ثم عاد عن قراره لخوض هذا اللقاء. وبدت حركات الأسطورة “الذي يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة” ثقيلة وبطيئة نوعا ما ونظراته المتحدية التي اعتاد تركيزها بحدة نحو خصمه أقل تحديا وحدة. كان هولمز يكيل ضربات هائلة نحو محمد علي الذي اكتفى بمحاولة صدها مع حماية وجهه بقبضتي يده.

في الاستراحة بين الجولات بدا أن محمد علي شاردا ساهما كأنه كان يجتر الذكريات ويستعيد تذكر تاريخه وأمجاده وانتصاراته. عادت إلى ذهنه ذكرى فوزه بالميدالية الذهبية في أولمبياد روما عام 1960. وإحترافه الملاكمة في نفس العام ليفوز بلقب بطولة العالم لملاكمة المحترفين بعد فوزه على البطل الخارق حينها سوني ليستون عام 1964. ثم أعلن إسلامه في نفس العام وغير اسمه من كاسيوس إلى محمد علي.

دق جرس الحلبة معلنا جولة جديدة. وبينما كان هولمز يكيل ضرباته القاتلة كان محمد علي يعود للماضي والذكرى حينما تم استدعاؤه للجيش الأمريكي عام 1966 لخوض الحرب في فيتنام. ورفض محمد علي تنفيذ الأمر مطلقا قولته الشهيرة “لن أحاربهم فهم لم يلقبوني بالزنجي”. وتم سحب لقب بطولة العالم منه بسبب رفضه هذا.

محمد علي الذي بدا مستسلما لضربات هولمز لم يستسلم حينها ولكنه أصر على العودة عام 1970 وخاض مباراة تاريخية مع القاطرة البشرية جو فريزر وأستطاع هزيمته في مباراة أطلق عليها “مباراة القرن”. وفي عام 1974 استعاد لقب بطولة العالم بعد أن تمكن من إلحاق الهزيمة بفورمان.

دق جرس الحلبة معلنا نهاية الجولة العاشرة وتوجه محمد علي إلى ركنه. وحدث الجدل بين معاونيه المدرب أنجليو دندي ومساعده بونديني براون. وبعد نقاش لم يدم طويلا رأى معاونوه إنهاء تلك المأساة فورا. وبالفعل أنهى الحكم اللقاء في الجولة العاشرة في مباراة كان من المفترض أن تستمر خمسة عشر جولة. وهزم الأسطورة وبدا ساهما شاردا كالأسد العجوز الجريح وهو يطرد من عرينه. وصرح البطل الجريح يومها بعد المباراة قائلا “بالنظر إلى كثرة اللكمات التي كنت أتلقاها.. أنا سعيد بأنهم أنهوا اللقاء”.

ونمت صباح هذا اليوم حزينا يملؤني الأسف على نهاية مسيرة بطلي الأسطوري.

لعب محمد علي مباراة واحدة بعدها في ديسمبر عام 1981 ضد تريفور بريك وهزم فيها أيضا. بعدها بثلاثة أعوام في عام 1984 أصيب محمد علي بمرض الشلل الرعاش “باركنسون”.

وبدت المناسبات القليلة التي رأيت فيها البطل مثيرة للشفقة والتعاطف. إلا أنه ظل دوما محتفظا بابتسامته وكلماته الشجاعة ومواقفه الإنسانية من رفض ومعارضة كل الحروب الأمريكية الخرقاء في العراق وأفغانستان وبنما وغيرها. وفي عام 2012 تم اختياره لإشعال الشعلة الأوليمبية في “أولمبياد أتلانتا”.

وتقدم الرجل ذو السبعين عاما حاملا الشعلة بيده المرتعدة ليضيئ الشعلة الأوليمبية وسط هتاف وحب وتعاطف ودموع الملايين حول كافة أصقاع الأرض.

زر الذهاب إلى الأعلى