أمل محمد أمين تكتب: كيف تشرد أهل السودان؟
بيان
إذا سألت أي مواطن عربي عن انطباعه عن السودانيين ستجد الإجابة حاضرة وسريعة “أطيب وأكرم ناس” وما أصابهم من ويلات الحرب أصابنا جميعًا بالحزن والألم وهذا جعلني أقرأ أكثر لأعرف من كان وراء تجويع وتشريد أهل السودان.
فاليوم يواجه أكثر من 18 مليون سوداني الجوع والتشرد والهروب للبلدان المجاورة باستخدام العصابات وأحيانا يصل من يريد إلى وجهته وأحيانا يموت في الطريق!
فمن تراه تلاعب بالسودان وجعل ثرواته عرضة للنهب من العصابات؟!
نحن هنا لا نتكلم عن بلد عادي بل هي أرض ضخمة محملة بثروات معدنية هائلة تتنوع ما بين 5 ملايين طن فضة وحوالي 1500 طن من الذهب، 1.5 مليون طن من اليورانيوم و 150 مليون رأس من الماشية.
والسودان أيضاً يمسك بحزام الصمغ العربي ويستحوذ على 85 في المئة من إنتاج العالم من الصمغ، بالإضافة إلى 3 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي موزعة بين شمال وجنوب السودان أما البترول يتركز معظمه في الجنوب وهو ما أثر كثيرا على شمال السودان عندما انفصل الجنوب عنه و ورغم هذا الكم الهائل من الثروات إلا أنه لا يكاد يوجد لها أثر في الاقتصاد ولا يلوح لها نبض في التنمية.
والمتابع للتاريخ يلاحظ أن غياب مفهوم الإدارة الرشيدة التي تسعى لتحقيق مشاريع تنموية يمتد أثرها عبر الأجيال قد غاب عن قياداتها، مما تسبب في حدوث تضخم وانهيار في اقتصاد الدولة السودانية على الرغم من امتلاء خزينة الدولة وعلى فترات متباعدة خاصة في الفترات التي زادت فيها صادرات النفط وقد بدأ هذا منذ عام 1999 حيث بدأت شركات النفط الآسيوية سواء الصينية أو الهندية تهيمن على سوق النفط في السودان، لتصدر السودان أول كمية نفط ضخمة إلى الأسواق العالمية حيث بدأت بحوالي 1500 برميل من النفط الخام، ووصل إنتاج النفط إلى ذروته ليصل إلى حوالي 485 ألف برميل يوميًا وذلك في عام 2007.
لكن هذا العائد الهائل لم يمهد الطريق لتحقيق النمو وبدأت الدولة تستدين من المصارف واستمرت الحكومة في تمويل العجز الكبير في الميزانية بطباعة النقود، وهو ما نتج عنه ارتفاع التضخم، ومعه تآكلت مدخرات المواطنين، وسقط الاقتصاد السوداني تحت قبضة عجز الموازنة والحساب الجاري، مما يعني أن الدولة تنفق أكثر من الإيرادات التي تتحصل عليها، وأن الواردات أكبر من الصادرات.
وهذا الخلل الهيكلي لازم الاقتصاد السوداني على مدار خمسة عقود متتالية، حتى أصبح السودان من بين أعلى ثلاث دول العالم في ارتفاع معدلات التضخم، مع استمرار تدهور سعر الصرف الذي بلغ 600 جنيه كل دولار أميركي في 2023.
وبعد أن وصل عبد الفتاح البرهان للحكم، بدأت الحكومة السودانية محاولات جادة لعلاج منظومة دعم السلع الاستراتيجية، وبالفعل كللت جهود الحكومة بالنجاح في عام 2021، بعد أن وافقت دول مجموعة النادي الباريسي على شطب نحو 14.1 مليار دولار من إجمالي ديون السودان للنادي التي تصل إلى 23.4 مليار دولار، وبذلك تمكن السودان من الحصول على الإعفاء الكامل من الديون في المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي.
لكن تلك الإصلاحات توقفت على أثر انقلاب أكتوبر 2021، ليدخل السودان مرحلة جديدة من العزلة والأزمات انتهت باندلاع الحرب في أبريل الماضي..
وقد تبدو الصورة قاتمة لكن الواقع أسوأ بكثير فقد خرج منذ بضعة أيام وزير المالية السوداني الدكتور جبريل إبراهيم في مؤتمر صحفي تحدث فيه عن الظروف الاقتصادية الاستثنائية التي فرضتها الحرب، وتداعياتها الهائلة بما في ذلك انخفاض إيرادات الدولة بنسبة 80 في المائة، والانكماش في الاقتصاد بنسبة 40 في المائة بنهاية عام 2023 وتوقع ارتفاع هذه النسبة خلال العام الحالي، وتدهور قيمة الجنيه مقابل الدولار الأميركي من 570 قبل اندلاع الحرب إلى نحو 1200 اليوم.
وسأعود إلى السؤال الذي بدأت به المقال كيف وصل السودان إلى هذا الوضع على الرغم من الإمكانيات الهائلة التي يملكها؟ من شرد أهل السودان وتسبب في جوعهم؟
والإجابة تكمن في عشرات السنوات من الحروب الأهلية والتكالب على السلطة والثروة منذ أن نال السودان استقلاله عام 1956 حيث بدأت أول حرب أهلية عام 1962 بين الجيش وحركة أنانيا التي كانت تطالب بحكم ذاتي للجنوب.
وأعقب هذا العديد من الانقلابات بسبب الاختلاف بين القوى المدنية والعسكرية وظهور الإسلاميين.. حتى عندما انتهت الحرب الأهلية الأولى عام 1972 بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا بين حكومة الخرطوم وقادة التمرد في الجنوب لم يستمر السلام طويلا واندلعت الحرب مرة أخرى عام 1983 بعد أن خالف النميري قانون الحكم الذاتي بموجب اتفاق أديس أبابا وقسم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم.
وبعد عدة انقلابات وصل البشير إلى الحكم عام 1993 واستمر في الحكم ثلاث عقود كاملة تخللتها حروب أهلية بسبب الجنوب كان أكثرها ضراوة الحرب في دارفور والتي أحيل فيها بعض قادة الجيش إلى المحكمة الجنائية الدولية وأرسلت الأمم المتحدة جيش من 26 ألف جندي لحفظ السلام وظلت الاضطرابات تزيد حتى حصل الجنوب على استقلاله عام 2011 في ضربة قوية لاقتصاد الجزء الشمالي من السودان بل أنه له العديد من التداعيات على الجزء الجنوبي منه.
وجاءت الحرب الجديدة التي اندلعت في أبريل الماضي بين الرئيس عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو بسبب وضع “قوات الدعم السريع” لتزيد من صعوبة فرص السودان في النهوض، بل احتياجه إلى معجزة اقتصادية حقيقية لإعادة إعمارها و بناء ما خربته الحرب.
ولن يحدث هذا إلا إذا تخلى الجيش عن الحكم وتم اختيار سلطة مدنية من الكوادر المتميزة التي أنجبتها السودان وهاجر العديد منها إلى خارج البلاد، فالعلم وحسن إدارة الموارد وإعادة هيكلة الشركات المسؤولة عن إنتاج الذهب وتصدير البترول هو المخرج الوحيد للأزمة بكل أبعادها.
وربما تكون زيارة الرئيس عبد الفتاح البرهان إلى مصر نقطة ضوء لبداية السلام والاستقرار في السودان والمنطقة.
اقرأ أيضا للكاتبة:
– أمل محمد أمين تكتب: « شاي بحليب »