أمل محمد أمين تكتب: طابا أرض السلام
بيان
هناك اعتقاد سائد أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وجاءت “طابا ” لتؤكد أنه في بعض الأحيان يمكن للسلام أن ينجح أكثر من الحرب في عودة الحق لأصحابه.
وطابا هي أرض شديدة الجمال على حدود 4 دول مع مصر، وتضم العديد من الآثار الخالدة، منها قلعة صلاح الدين بجزيرة فرعون التي تبعد 10 كم عن مدينة العقبة بالأردن.
وتمر هذا العام 35 عام على ذكرى استرداد “طابا” هذا الحدث الذى شهدته مصر فى 19 مارس 1989، والتي لجأ فيها المفاوض المصري إلى الطرق القانونية والدبلوماسية عبر التحكيم الدولي، ليُثبت أحقيته فى المنطقة، مقدّماً ما يثبت من المستندات أنها مدينة مصرية.
وتبدأ القصة بمماطلة إسرائيل لتسليم سيناء وفقا للخطة التي تم الاتفاق عليها وفقًا لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل حيث تم ترتيب عملية الانسحاب الإسرائيلي من سيناء على 5 مراحل لتكون الأخيرة في أبريل 1982، لكن قبل المرحلة الأخيرة وقعت حادثة اغتيال الرئيس السادات، وبعدها تلكأت السلطات الإسرائيلية متحججة بالتأكد من التزام خليفة الرئيس السادات وهو الرئيس مبارك بالمعاهدة، ووقع خلاف في النهاية حول بعض العلامات الحدودية وبينها طابا والتي كانت رقم 91.
وواجهت مصر صعوبة كبيرة في إثبات أن طابا أرض مصرية ، وتحدث عن هذا الموضوع اللواء محسن حمدي، رئيس لجنة استرداد “سيناء” وكان ضابطًا للمساحة العسكرية، عن الطريقة التي تلاعبت بها اسرائيل لتضع يدها على وادي طابا حيث قامت بطمس العلامة الحدودية لطابا ووضعها فوق الهضبة وليس في الوادي، وكان ثبات هذا الأمر صعب لأن الجانب الإسرائيلي أزال العلامة الحوية وطمسها بطريق بري، خاصة أن مصر ليست لها علاقة بطابا منذ العدوان الثلاثي في 1956 وحتى 1982.
ويحكي اللواء محسن رئيس اللجنة العسكرية لاسترداد “سيناء” كيف حاول الإسرائيليون بعد صدور حكم التحكيم الدولى، الذى كان باتاً وصريحاً فى 14 علامة حدودية محل خلاف، التلاعب بأى أوراق ضغط ومن بينها أن الحكم غير ملزم لإسرائيل بالانسحاب، فهم لم يكونوا مصدقين أنهم سينسحبون من طابا حتى بعد صدور الحكم.
ويقول “أذكر هنا للمرة الأولى أنه فى آخر مقابلة بينى وبين دوف سيون، رئيس اللجنة العسكرية الإسرائيلية، وكنا فى إيلات، وجلسنا 4 ساعات للتفاوض ولم نتوصل لشىء، ومعنا 12 عضواً من كل فريق، ثم طلب منى «سيون» أن يجتمع معى بشكل ثنائى، وقال لى:
«يا أدميرال، نريد أن نحل النقاط الفنية المتوقفة فى إنهاء المفاوضات، وإذا لم نتوصل إلى حل جذرى وسريع سيقوم الطرفان الحكوميان بتغييرنا واستقدام آخرين لإنهاء هذه النقاط الفنية»، واعترف قائلاً: «99% مما تقوله مصر عن حقها فى طابا صحيح، و99% مما تقوله إسرائيل عن حقها فى طابا صحيح، إذن يظل هنا الـ1% خطأ، وهذا ما أريد أن أتحدث معك بشأنه ونلعب فى الـ1% هذا».
فقلت له: لا أفهم؟
فأحضر ورقة وقلماً ورسم وادى طابا وقسمه نصفين دون أن يتكلم كلمة واحدة.
فقلت له: أيضاً لا أفهم، ما هذا؟
فظل يشير لى على الورقة لكى أفهم دون أن يشرح بالكلام، واستنتجت أنه تصور أنى أحمل أجهزة تنصت للقاء وأسجل له ما سيقوله واتخذه ضده فيما بعد فى التحكيم الدولى، لقد كانوا يريدون نصف وادى طابا فى حال فشلوا فى الحصول عليها كاملة”!.
ولم تكن هذه هي الخدعة الوحيدة التي قامت بها إسرائيل بل إنها قامت ببناء فندق على أرض طابا واستكمال عدد من المنشآت السياحية، وطلبت حق انتفاع بهما لكن مصر قامت بشراء الفندق عوضا عن بقاء اسرائيل في طابا.
وتوقفت المفاوضات من يناير 82 حتى 86، وبيجين من وقّع المعاهدة قدم استقالته، وفي عام 85 تم تشكيل اللجنة القومية للدفاع عن طابا برئاسة عصمت عبدالمجيد، وهو كان وزيرا للخارجية، وتم ضم لها أساتذة قانون وتاريخ من كل التيارات الوطنية بجانب فتح الباب أمام المواطنين إن كل معلومات خاصة بطابا يقدمها.
ومصر كانت حريصة تقول إسرائيل إنها قضية رأي عام ومفيش تراجع خطوة واحدة عن استعادة طابا، وبدأت رحلة عصمت عبدالحميد ومعه السفير نبيل العربي في تشكيل اللجنة القومية، ولم تبدأ المفاوضات الرسمية بعد، وفي ظل هذا إسرائيل قامت ببناء فندق وعملت منشآت، وفي ظل الضغوط شيمون بيريز استجاب لفكرة اللجوء للتحكيم الدولي.
ولعب السفير نبيل العربي، والذي أصبح وزير الخارجية فيما بعد، دورا كبيرا في المفاوضات وهو كان مكلفا بالوقوف أمام هيئة التحكيم، حيث قامت كل من مصر وإسرائيل بترشيح أسماء القضاة وتم الاتفاق في النهاية على 3 قضاة وينظرون لكفاءة القضاة وتاريخه القضائي ومدى أمانته ويكون محصنا ضد أي إغراء.
ومصر لم يكن لها انحيازات وكانت تنظر للكفاءة بجد، ومع طوال الوقت قرر نبيل العربي تدعيم الملف بخبرات أجنبية للاستفادة بخبراتهم، خصوصا أن أول مرة مصر تدخل قضية حدودية وتذهب لمحكمة دولية.
كانت إسرائيل تمارس طوال الوقت حرب نفسية فظيعة، ولكن الوفد المصري عملوا محاكاة للمرافعات قبل الذهاب للمحكمة.
وأكبر أزمة واجهت الوفد المصري عندما اكتشفوا صورة حاكم سيناء العسكري وكان شخصا إنجليزيا، وكان اسمه باركر باشا، وتوصلوا لمذكراته ووجدوا فيها صورة له في طابا وخلفه العلامة 91 في هضبة طابا وتدل على أحقية مصر في هذه المنطقة، ولكن إسرائيل كانت قد وصلت لنفس الوثائق من ابنة باركر باشا، و اقترح الفريق تقديم هذه الصورة وأن إسرائيل تلاعبت بالعلامة وغيرتها، والوثيقة وهي العلامة آخر علامة حدودية وتثبت حدودية طابا لمصر، ونحن نتحدث عن 14 علامة حدودية وليس علامة واحدة وأخرها العلامة 91.
وأمام هيئة التحكيم الوفد المصري نظم نفسه بذكاء شديد جدا، من سيتكلم في النواحي الجغرافية والسياسية والقانونية، وبعد فترة من تقديم المذكرات وصلت مصر لمرحلة اسمها التوفيق قبل أن تصدر المحكمة قرارها، وكان من صحة التوفيق أن إسرائيل تريد تأجير طابا لمدة 99 سنة مقابل الاعتراف بها لمصر، ولكن السفير نبيل العربي رفض تماما الاقتراح.
ورغم صدور قرار لجنة التحكيم الدولى يوم 15 مارس 1989 فإن التنفيذ على الأرض بالفعل تأخر 3 أيام، حيث اخترع الإسرائيليون قصة أنهم لا يعرفون نهاية خط الحدود بعد التحكيم الدولى إلى أين ينتهي على الشاطئ، وحاولوا الحصول على 10 أمتار داخل الأراضى المصرية خلال تلك الأيام الثلاثة، وفشلوا، ورُفع العلم يوم 19 مارس 1989 لتعود طابا إلى أحضان مصر.