محمد قدرى حلاوة يكتب: ليس سوي العراق

بيان

الساعات الأولى من صباح السابع عشر من “يناير / كانون ثان” عام ١٩٩١.. ليلة شتاء قارصة البرودة.. المطر يدق علي النافذة في إيقاع منتظم وصفير الرياح يطن في الأذن.. متدثر بالغطاء لا يكاد يظهر من ملامحي سوي عينان مشدوهتان نحو شاشة التلفاز.. بدأ القصف الجوي على “العراق”.. حرب “تحرير الكويت” بدأت إذن – وفي رواية أخرى حرب تدمير العراق.

الصور الخضراء الملتقطة من خلال أجهزة الرؤية الليلية تظهر مربعات بيانية تتوسطها علامة زائد – إشارة للهدف المقصوف، وسرعان ما تتصاعد خيوط الدخان عاليا وتعلو ألسنة النيران.. الجنرال” الأمريكي ” نورمان شوارتسكوف ” يقف بجسده الضخم وأوداجه المنتفخة يعلن بداية الحرب على” العراق “.. الأمير” خالد بن سلطان ” وزير الدفاع السعودي يقف مزهوا بجواره.. لم لا أليس هو قائد القوات المشتركة لتحرير ” الكويت ” ؟!.

الجميع يعلم من هو القائد والمحرك الحقيقي لكل ما جري وما يجري من أحداث.. لكن الصديق والحليف ” الأمريكي” يمنحنا برفقه الألقاب الفخمة والمكانة السامقة.. فخر القبيلة وفضل العشيرة تراث موغل في القدم.. المقدم ” أحمد الربيعان” المتحدث الرسمي لقوات التحالف يرطن بلسان عربي جلي مشير بعصا على خريطة مجسمة شارحا الضرر الذي أصاب الأهداف المقصوفة ودقة الإصابة والتوجيه.

تلك التقنية الحديثة بالطبع لا تشرح لنا ولا تظهر الأجساد المتطايرة والأشلاء المبعثرة على الجانب الآخر.. جانب الشر المطلق.. نحن في جانب الخير.. لا تأسي يا صديقي على بضعة أرواح بائسة ربما قادها حظها العثر نحو الموت.. أطمئن فالقنابل الذكية تختار رؤوس الشياطين فقط.. لا بأس من بضعة آلاف أخرى قد يصعدون إلى السماء عرضا وصدفة.. هم محض ” أضرار جانبية”.. أحيانا ما تتسافل اللغة لتصبح وقحة وهي تكافح لمجاراة واقع أكثر وقاحة.. ما علينا من كل تلك التساؤلات المرهفة.. فجر ” تحرير الكويت” قد اقترب.. بضعة ” ضربات جراحية” أخرى وينتهي كل شئ.. وربما ينتهي ” العراق” أيضا.

الثامن عشر من ” يناير / كانون ثان”.. ” العراق” يطلق صواريخ ” سكود” قاصفا ” تل أبيب” ومناطق أخرى من الكيان المحتل.. فرحة غامرة تنتاب قلوب جماهير الشارع العربية – ربما أنتابت قلوب جنود وقيادات الجيوش العربية المتحالفة أيضا – هتافات تنطلق” يا صدام يا حبيب.. يالا أضرب تل أبيب”.. ” إنها عملية دعائية بحتة تستهدف تفكيك التحالف”.. يقول” شوارتسكوف”.. من حق ” العراق” أن يناور بالتأكيد.. ومن حق الجماهير أن تفرح أيضا.. يألمون الآن كما نألم نحن.

بضعة أيام وصارت الحرب ومتابعة أخبارها جزء مكرور من عادات الأيام المتلاحقة.. اختراق جرئ للقوات” العراقية ” لخطوط التحالف جنوب ” السعودية ” في منطقة ” الخفجي “.. القوة المهاجمة أبيدت بعد ذلك بأكملها.. لكنهم على الأقل حاولوا.. لم يرفعوا الراية بعد.. هي ” حماقة” كما وصفها عرابو التحالف.. و ” شجاعة النشامى” كما قال ” صدام”.. على أية حال ولي زمن ” السيف”.. طائرات ” الشبح” تقصف من بعيد.. وأطنان أخرى من المتفجرات لم تلون سماء ” بغداد” بعد.

الثالث عشر من ” فبراير / شباط”.. الطائرات ” الأمريكية” تقصف ملجأ ” العامرية “.. ٤٠٠ ضحية حصيلة جيدة بكل تأكيد.. إنه مقر قيادة ” بعثي “.. لا يهم الأمر كثيرا عندما ثبت أن كل الضحايا من النساء والأطفال.. استطرد الجنرال ” ريتشارد نيل” قائد العمليات” الأمريكي شارحا” عدد الطلعات الجوية.. وعدد الطائرات العراقية المدمرة على الأرض.. وعدد آبار النفط المشتعلة.. قبل الإشارة إلى مئات القتلى كتذييل.. قصف موقع هذا ما سماه “: ” أنا هنا لأقول لكم إنه موقع عسكري.. مركز قيادة ومراقبة.. موقع محصن.. ولا تفسير حتى الآن لماذا وجد المدنيون هناك “..” نشعر بالحزن للواقعة إذا كان هناك مدنيون.. إذا كان هناك بالفعل مدنيون فإن ما حصل يكون مأساة “.

هؤلاء المدنيون الحمقى ما الذي أوجدهم في ذلك المخبأ لحظة القصف؟.. ” إذا ” الشرطية اللعينة تتكرر في تصريحات الجنرال.. هي مجرد ” مأساة ” قدر تحدث أحيانا.. يتحدث ” روبرت فيسك ” الكاتب البريطاني قائلا”: قمت بزيارة هذا الملجأ في ضاحية العامرية في بغداد عدة مرات في الأعوام اللاحقة.. لقد أصبح مزارا.. وغطت جدرانه السوداء صور ٤٠٠ امرأة وطفل قتلوا هناك.. لقد كان يستخدم كل مساء كملجأ للعائلات المحلية ولم يكن هناك مسئوول بعثي بينهم.. وقد أحرقهم الصاروخان اللذان أطلقا على المبنى جميعا وهم أحياء.. على بعض أجزاء الجدران ظلت بقايا لحم (بشري) لعدة سنوات فيما بعد.. ووجدت أحجار أسمنتية عليها علامات بحجم البشر تحولت إلى، سائل عندما أنفجرت الصواريخ الأمريكية خلال ثوان.. ستبقى ذكراهم كطيف على الجدران مثل هيروشيما “.. (1) .. علينا أن نصدق الجنرال” شوارتسكوف ” عندما صرح قائلا” لا أعتقد ان أمة ( مثلنا) في حالة حرب عمدت إلى استعمال التكنولوجيا لتقليل الأضرار المدنية وتحاشي إصابة الأهداف الثقافية والدينية “.. ” الحداثة ” ليست تيارا أدبيا أو فنيا فقط.. لقد طالت طريقة الموت أيضا.. العلم يسر كل شئ.

الرابع والعشرين من ” فبراير / شباط “.. الحرب البرية بدأت.. الصور تظهر القوات” العراقية” المنسحبة تباد في” طريق الموت “.. أين تذهب كل تلك القذائف الذكية إذا إن لم تكن على رؤوس” العراقيين” ؟!.

بضعة أيام فقط وتتبدل الصور لتعرض صور ” الكويتيين” ترفع الأعلام ” الأمريكية” الصغيرة بهجة بالتحرير.. لم يكن وقت طرح الأسئلة.. يقول مستشار العلاقات العامة ” الأمريكي” ” جون دبليو ريندون” ” هل توقفت لحظة لتتسائل – سأل ريندون – كيف استطاع سكان مدينة الكويت بعد أن وقعوا رهينة الاحتلال لسبعة أشهر طويلة ومؤلمة أن يحصلوا على الأعلام الأمريكية اليدوية الصغيرة وغيرها من أعلام الدول الأخرى المشتركة في التحالف؟”.. ثم توقف عن الكلام للتأثير، وواصل: ” حسنا.. أنت تعرف الجواب الآن.. إذن تلك كانت إحدى وظائفي “..(2)..

ذهبت أيام الحرب.. ليستقبل” العراق ” سنوات الحصار مسلمة إياه لحرب دمار جديدة.. ولت ذكرى وأشلاء ضحايا ملجأ ” العامرية “.. مضت هتافات الفرحة بقصف ” تل أبيب “.. لم يبق في الذاكرة سوي بضع أطياف صور خضراء للقصف الليلي.. وأعلام أمريكية صغيرة ترفرف في الأيدي.. وجرح في حشا ” العراق ” لم يندمل بعد.

“أَتذكّرُ السيّاب, يأخذُ عن حمورابي..
الشرائعَ كي يُغَطّي سَوْءَةً,.
ويسير نحو ضريحه متصوّفاً..
أتذكّر السيّابَ، حين أُصابُ بالحمّى..
وأهذى: إخوتي كانوا يُعدُّون العَشَاءَ لهولاكو..
ولا خَدَمٌ سواهُمْ … إخوتي!..
أتذكّرُ السيّابَ… لم نَحْلُم بما لا..
يستحق النَّحل من قُوتٍ.

ولم نحلم..
بأكثرَ من يدين صغيرتين تصافحان غيابنا..
أَتذكّرُ السيّابَ… حدّادون موتَى ينهضون..
من القبور ويصنعون قيودنا..
أتذكّرُ السيَّاب… إنَّ الشعرَ تجربَةٌ ومنفى،.
توأمان ونحن لم نحلُمْ بأكثر من..
حياة كالحياةِ، وأن نموت على طريقتنا..
عِراقُ..
عراقُ..
ليس سوى العراقْ..”.. (3)

………………………………………………………………

( المصادر)

(1)” الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة – ج ٢ الإبادة..” روبرت فيسك “..

(2) ” أسلحة الخداع الشامل – استخدام الدعاية في حرب بوش على العراق” ” شيلدون رامبتون – جون ستوبر”

(3) ” محمود درويش”..

(الصورة لحطام ملجأ العامرية حيث لقى ٤٠٠ طفل وأمرأة حتفهم في قصف أمريكي)

اقرأ أيضا للكاتب:

 

زر الذهاب إلى الأعلى