محمد قدرى حلاوة يكتب: فلسطينيون وقتلة (١)
مثلما هناك لحظة ميلاد لا تعلم أو تتذكر عنها شيئا سوي بعض حكايات الأهل وصور قديمة أصابها التلف.. هناك لحظة أجل مسمى تأتيك بغتة.. لا تدري لها موعدا ولا أرضا ولا حينا محددا.
يقول البعض إن للموت علامات وإن صاحبه يشعر بعلامات مقدمه قبلها بحين.. لا أعلم حقيقة مدى صدق الأمر.. ربما حينها يكون هناك ما يمنع صاحبها من الكلام وهو يعلم أنه مساق إلى قدره ومصيره.. لكن كل ما أعلمه بالتأكيد هو أن هناك نهايات جليلة مشرفة يغبط المرء صاحبها عليها.. وربما يتمناها.. بل هناك من يسعى إليها بحكم العقيدة أو المهنة أو اليقين أو أي عوامل أخرى تسكن خاطره وقضية يؤمن بها.
” طارق أيوب”.. صحفي فلسطيني ابن ” نابلس” الصامدة .. هو ابن الشتات ولد عام ١٩٦٧ في ” الكويت”.. أكمل دراسته في الهند.. ليستقر بعدها في ” الأردن”.. الفلسطيني دائما من منفي إلى منفي يحمل في قلبه الوطن. عمل ” طارق” في مهنة الصحافة.. والتحق بقناة ” الجزيرة” بعد إنشاءها عام ١٩٩٦ بسنوات قليلة.. بالتأكيد كان ” أيوب” يعلم مخاطر مهنة المراسل الصحفي.. لكن طبيعته الدؤوبة وعشقه لمهنة البحث عن الحقيقة دفعته لركوب الخطر.
مهنة الصحافة رسالة واختيار في حد ذاتها.. إما أن تكون كاتبا حرا.. أو مستكتبا في هيئة من الكتبة.. المراسل الصحفي أكثرها خطورة وسموا على الإطلاق.. أنت تمارس عملك في أشد مناطق الخطر.. بين زخات الرصاص وترصد المتقاتلين ودوي المدافع والدخان.. مطلوبا منك أن تكون عين المشاهد وعقله.. تنقل إليه الصورة بأكبر قدر من الحياد والمهنية بعيدا عن مشاعرك الشخصية وكذلك مراعاة توجهات وسيلة الإعلام التي تنتسب إليها و أن تحيد ولو قليلا ميولك وإنحيازاتك وما أصعبها من مهمة.
عندما شنت الولايات المتحدة الأمريكية عدوانها على العراق مارس – إبريل عام ٢٠٠٣.. تم تكليف “طارق” بالذهاب إلى منطقة ” الرويشد” على الحدود “الأردنية – العراقية” لتغطية نزوح اللاجئين العراقيين الفارين من الحرب.. وكانت المفاجأة في تقاريره أن عدد المواطنين العراقيين العائدون للدفاع عن بلادهم ضد العدوان الأمريكي أضعاف أضعاف عدد النازحين في رسالة لم تلفت نظر الكثيرين حينها ونقلها” أيوب” بكل موضوعية وأمانة.. لكن تصاريف القدر أرادت له إلا أن يبقى مجرد راصد لأعداد العراقيين عودة ونزوحا وكانت ترسم له مهمة أخرى وقدرا آخر.
بعد اندلاع العدوان بأيام أعلن “سعيد الصحاف” وزير الإعلام العراقي ان القوات الامريكية قد قصفت حافلة تضم عددا من الدروع البشرية في منطقة ” الرطبة” بين “بغداد” و”الرويشد”.. وأن مصابي القصف نقلوا إلى مستشفى ” الرطبة” لتلقي العلاج.. وتلقى ” طارق” تكليفا من قناة ” الجزيرة” للذهاب إلى هناك لتغطية الحدث.. إلا أنه عندما وصل إلى هناك لم يجد الحافلة ولا المصابين وكان كل ما وجده القوات العراقية التي صادرت الكاميرا وأدوات الإرسال الخاصة به لعدم وجود تصريح صحافي وإذن بدخول المعدات معه.
كان عليه أن يتبع بعض الإجراءات الروتينية ويذهب إلى ” بغداد” للحصول على معداته المصادرة.. ودخل ” بغداد” تحت القصف وبعد محاولات عدة ومشاحنات بين إدارة قناة ” الجزيرة والسلطات العراقية استطاع ” أيوب ” الحصول أخيرا على معداته المصادرة.. يمكنه الآن أن يرحل ” للرويشد ” بهدوء وخصوصا بعد أن شاهد بنفسه آثار القصف المدمر لعاصمة الرشيد وشم رائحة الموت في شوارع المدينة التليدة. واستوفي كل معاذيره المهنية لدي إدارة القناة، لكنه طلب منهم – إدارة القناة – البقاء في بغداد لتغطية الحرب.. هل كان يعلم حينها أنه يختار لحظة أجله؟.. ربما.. والغريب أنه كان عليه أن يستوفي بعض الإجراءات الروتينية الأخرى الشاقة كي يوافي ساعته ومصيره بعد بضعة أيام.
لم توافق السلطات ” العراقية” على بقاء ” طارق” في ” بغداد”.. كان لابد له أن يحصل على تصريح مهني من السفارة ” العراقية” في ” عمان”.. لم يفت ذلك في عضد ” أيوب”.. شئ، ما يناديه ويدفعه نحو مصيره المكتوب.. عاد إلى ” عمان” بالفعل وحصل على التصريح في ٢ إبريل – نيسان.. وكان وسط زملائه في مكتب القناة في” بغداد” في الرابع من ذات الشهر.. ولم ينسى أن يحمل معه لزملائه بعض الأدوية وأغراض أخرى كانت تنقصهم.. وكانت دقات الساعة تدق بقوة في عدها التنازلي بينما كان هو ربما لطبيعته الدؤوبة أو لأشياء روحانية أخرى لا نعلم لها تفسيرا يعمل كالماكينة بلا توقف ويعد التقارير الميدانية الواحد تلو الآخر ناقلا معاناة الشارع العراقي.. ناشرا عبق روحه الطليقة وسط كل طاقم العمل.
أعد ” طارق” أربعة تقارير ميدانية في ثلاثة أيام.. منها تقريران في اليوم السابق لوفاته.. وهو أمر يفوق المعدلات الطبيعية في عالم الصحافة المرئية.
فجر الثامن من إبريل – نيسان.. كنت أجلس أمام التلفاز متجمدا مسلوب الحواس أتابع البث المباشر متنقلا بين قناتي ” الجزيرة” و ” أبو ظبي”.. في الخامسة وعشر دقائق آخر تعليق مباشر على الأحداث من “أيوب” الدبابات الأمريكية تسير في شوارع عاصمة الرشيد.. بينما ” الصحاف” يقف أمام مبنى وزارته مبشرا إيانا ومطمئنا لنا مزيحا عن أنفسنا الخوف من ” الأفعى التي كلما تمددت كان من السهل تقطيع أجزاءها”.. إنه يبشر بمعركة ” بغداد” المنتظرة إذا.
كان دخان السجائر قد ملأ الحجرة وفناجين القهوة الفارغة قد تكدس في قاعها بعض البن المتحجر.. ونهار حار من نهارات إبريل – نيسان. قد بدأ ينشر ضؤه.. فجأة نوعا من الاضطراب في البث المباشر لقناة” الجزيرة ” وإنقطاع الصورة.. “شاكر حامد” مراسل قناة” أبو ظبي” يوافينا بتفاصيل قصف مقر قناة ” الجزيرة” وإستشهاد مراسلها ” طارق أيوب”.. الصورة تنقل بعض العاملين بالقناتين يحملون جثمان طارق في ملآة إلى إحدى سيارات الإسعاف.. يقول بعض زملاءه إنهم طلبوا منه ومن ” زهير العراقي” المصور الهبوط من سطح المبنى بعد اشتداد القصف من حولهم.. لكن مسئولو البث في ” الدوحة ” طلبوا توجيه كادر التصوير للكاميرا نحو جسر ” الجمهورية” حيث تربض الدبابات الأمريكية.. أبي ” طارق” إن يترك المصور يفعل الأمر وحده وتقدمه… وفجأة دوى انفجار صاوخي.. أصيب المصور بجروح واستشهد ” طارق” في الحال بشظية أخترقت صدره.
في جنازة مهيبة ورى ” طارق أيوب” التراب في ” عمان” بجوار جثمان ابنته الرضيعة كما تمنى.. بينما كان أحد المسئولين العسكريين الوقحين من الجانب الأمريكي يلقى بالمسئولية على ” مقاتلين عراقيين” أطلقوا النار من مبنى القناة !! فاضطرت القوات الغازية للرد على النيران .. في اليوم التالي سقطت ” بغداد” وجابت أحذية العسكر الأمريكان أرجاء بغداد على ترابها المحمل برائحة المجد والتاريخ. نسينا سريعا مأساة ” طارق” أمام مأساة شعب العراق.. ربما مازالت دماؤه لم تجف حتى الآن.. نعم نسينا ” طارق” إلى أن ذكرتنا به عروس أخرى زفت إلى السماء.. جميلة الجميلات ” شيرين أبو عاقلة”.
(٢)
في صباح اعتيادي يحمل الضجر وسأم الاعتياد استيقظت بالأمس.. كان ذهني مشغولا بالمعركة حامية الوطيس الدائرة الآن عن مباراة نهائي كأس أبطال الدوري الأفريقي المقرر إقامتها بالمغرب.. فتحت التلفاز على صوت الكابتن ” شوبير” – في إعادة برنامجه – وهو يحلل تداعيات المعركة والحدث الجلل وتطوراته.. سمعت هذا من قبل.. هل أبحث عن إعادة لبرنامج ” الحكاية” وأشاطر ” عمرو أديب” إحدى ولائمه العامرة؟.. أخذت اقلب في القنوات حتى توقفت عند قناة ” الجزيرة” مصدوما عند خبر ارتقاء روح ” شيرين أبو عاقلة”.
يمكن أن يكون للمرء تحفظات لا تنتهي على قناة ” الجزيرة”.. لكن لا يمكننا في ذات الوقت ان ننكر أنها جزء من تاريخنا الشخصي ومن وعينا الجمعي لا يمكن تجاوزه أو محوه.. ” وليد العمري”.. ” شيرين أبو عاقلة”.. ” جيفارا البديري”.. إلياس كرام “.. وائل الدحدوح “.. أصدقاء اعتادت عليهم العين وآلفتهم الأذن منذ أكثر من عشرين عاما.. هم الذين نقلوا لنا من ” فلسطين” من أماكن النار والدمار إنتفاضة ” الأقصى”.. حرب ” جنين”.. العدوان المتتالي على قطاع” غزة “.. لمحنا الخوف في أعينهم أحيانا.. التوتر.. الترقب.. الانفعال.. عشنا مشاعرهم وشكلوا انطباعتنا ومشاعرنا..
“شيرين” التي انضمت لطاقم القناة كمراسلة ميدانية منذ عام ١٩٩٧.. امتازت عن الجميع بالهدوء بدرجة كبيرة.. لم تكن مجرد مراسلة صحافية.. لكنها ابنة ذات الأرض الولادة ” فلسطين”.. لم تخفي انتماءها.. شاركت أهلها أفراحهم وأتراحهم..( تقول أم فلسطينية باكية وهي تنعيها إنها كانت تشاركها البحث في الأنقاض عن جثامين أبناءها الشهداء في عدوان ٢٠٠٢ على جنين).. امتازت تقاريرها بالعمق والموضوعية ولم تحجم يوما عن ارتياد الخطر.. بالتأكيد كانت تعلم أنها تعمل في بيئة غير آمنة وتقف أمام عدو غادر لا يرقب في أحد إلا ولا ذمة.. لكنها كانت تقول: ” ليس سهلا ربما أن أغير الواقع.. لكنني على الأقل كنت قادرة إيصال ذلك الصوت إلى العالم”..
نعم يا ” شيرين” كنت قادرة.. ولذلك احترقت جسدك رصاصتهم الغادرة.. هم قتلة لا يرتوون من الدماء.. يخشون نقل الصورة.. يريدون دوما الرواية الواحدة المعتمدة.. تقاريرك انت وزملاءك تفضح أسطورة واحة الديمقراطية وسط المتخلفين الهمج.. تعري ترهات طهارة السلاح.. تظهر وجههم الحقيقي الفظ.. جيش الدفاع الإسرائيلي ( هكذا يسمى) أعلن انه سيفتح تحقيقا في مقتل ” شيرين”.. ” مشيرا إلى إحتمال إصابتها بنيران فلسطينية!!”.. في وقت لاحق كتب ” أفيخاي أدرعي” المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في تغريدة على حسابه في تويتر “تشير التقديرات الأولية.. وخلافا لما نشر في وسائل الإعلام العربية أن الصحافية شيرين ابو عاقله قتلت صباح اليوم نتيجة نيران مسلحين فلسطينيين في مخيم جنين أثناء تغطيتها الإخبارية!!”.. أضاف” يتم التحقيق في إمكانية تعرض صحافيين لإطلاق نار.. قد يكون مصدره مسلحين فلسطينيين.. مشيرا إلى أنه يتم التحقيق في الحادث “..
هل شعرت” شيرين ” ببشارات الإرتقاء؟.. ربما.. لكن ما يتأكد حينا بين الآخر هو وقاحة الأعداء القتلى في سوق ذات مبررات القتل والإستهداف المعتمد.. ومصير الفلسطيني المحتوم في الشتات أو في الوطن.. وما هو أكثر تأكيدا وصفعا أننا نزداد حينا بعد الآخر بلادة وبعدا عن قضايا الأمة الحقيقية.. صور القتل التي تملأ الشاشات صارت إعتيادا لا تثير في المرء مشاعر أسى وتعاطف.. الميديا الحديثة حولتنا إلى مسوخ متلقية للحدث ونحن جالسون على مقاعدنا الوثيرة.. سننسي ” شيرين” بعد حين كما نسينا طارق.. وستعود صورنا الشخصية ” البروفايل” سيرتها الأولى بعد أن تحتلها ” شيرين” بضعة أيام.. وستفيض ” الاستوري” بالبهجة وتحيات الصباح غدا أو بعد غد.. فنحن كائنات سرعان ما نثور ونمور ثم ما نلبث نهدأ ونخور.. وسنعود لسؤالنا الرئيسي.. هل من العدالة إقامة مباراة النهائي في المغرب؟.. الإجابة عند الكابتن ” شوبير” تابعونا على قناة أون سبورت..
“سقط القناع.. عن القناع.. عن القناع..
سقط القناع ..
لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء !..
يا صديقي، ,, لا قلاع !..
لا الماء عندك، لا الدواء , لا السماء, ولا الدماء ..
ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء.
حاصر حصارك.. .لا مفرُّ !..
سقطت ذراعك فالتقطها !..
واضرِبْ عدوك.. لا مفر ..
وسَقَطْتُ قربك، فالتقطني !..
واضرب عدوك بي، فأنت الآن :
حرٌّ..
حرٌّ..
وحرُّ.
قتلاك .. أو جرحاك فيك كذخيرة !..
فاضرب بها ! اضرب عدوك..لا مفرُّ !..
أشلاؤنا اسماؤنا.. اسماؤنا أشلاؤنا..
حاصر حصارك بالجنون !..
وبالجنون !..
وبالجنون !..
ذهب الذين تحبهم، ذهبوا…
فإما أن ( تكون )..
أو ( لا تكون )..
سقط القناع عن القناع..
سقط القناع،ولا أحد إلّاك في هذا المدى المفتوح للأعداء.. والنسيان !..
فاجعل كل متراس بلد !..
لا..لا أحد..
سقط القناع ..
عَرَبٌ أطاعوا رومَهم ..
عرب وباعوا روحهم ..
عرب.. وضاعوا..
سقط القناع عن القناع..
سقط القناع ..”
محمود درويش