محمد قدرى حلاوة يكتب: (الشارة)
بيان
(١)
كنا نلمحه يأتي من بعيد مهرولا يلوح بيديه محدثا كثير جلبة.. مظهره مضحكا بعض الشئ بوجنتيه المنتفختين وبدانته الظاهرة وقميصه المتهدل من السروال وحقيبته المدرسية المكتظة بالكتب و ” الكراريس” وبعض الشطائر.. شعره الناعم ينسدل على جبهته ويموج مع عصف الهواء.. بينما عينيه الضيقتين تشعان بالسعادة والفضول والتوق للهو والمرح.
حرص ” حسام” على الجلوس معنا على ” الدكة” في زاوية مقصية من ” الفصل” .. مفرط الكرم في اقتسام حبات ” اللبان” و ” البونبون”.. مشاركا إيانا لعب الكرة و ” الاستغماية”، متقبلا الخسارة بروح رياضية وابتسامة مشرقة.
كان يسخر من بدانته التي تحرمه دائما من الفوز وتجعله يتعثر أحيانا.. حين يتغيب لمرض عارض أو أي سبب آخر نشعر أنه ينقصنا شيئا.. شيئا كبيرا من البهجة والحبور والفرح.
صباح يوم مشهود.. وقف بعض الفتية في صف مستقيم أمام ” طابور” الصباح و ” الإذاعة” المدرسية تعلن عن إنضمامهم ” للشرطة المدرسية”.. لمحنا ” حسام” واقفا وسطهم لا يكاد يظهر وسط قاماتهم الفارغة وقد تلاشت ابتسامته واكتسي وجهه بآمارات الجدة والأهمية.. بينما الشارة تكاد تنفجر وهي تطوق عضده المكتنز.
وقفنا نحيي “العلم ” ونحن نرمق” حسام” الذي كان يحاول جاهدا نصب قامته وقد تصلب كفه على جبهته ورأسه مرفوع نحو ” العلم” المرفرف.. ومظهر ملابسه المتهدلة تثير الضحكات الخافتة.
(٢)
طرأت بعدها تغيرات عدة على ” حسام “.. حيث انتقل للجلوس في الصفوف الأولى..لا يخلع الشارة أبدا.. صارت عينيه الضيقتين لا تكفان عن الحركة في قلق.. اختفت ” حمرة” وجهه.. هل القيد المطوق في عضده قد منع انسياب الدماء في العروق؟.
يقف كل حين لتنسيق هندامه.. أغلق ” زر” قميصه العلوي وحرص على ارتداء رابطة العنق.. تواري مرحه ولهوه وبدأ يرسم على وجهه ملامح رصانة مفتعلة.. يسترق إلينا النظر بين حين وآخر من خلفه.. ثم يأخذ في رفع الشارة لأعلى كأنه يذكرنا ويحدثنا قائلا : هناك شيئا قد تغير؟.. ألم تلاحظوا تلك الشارة الحمراء الجليلة المكللة بذلك “النسر ” المهيب الشامخ “؟..
كان يقف في الطابور ينظمه.. يخبر” المدرس ” عن من يثير شغبا أو يخل بالنظام.. لم يعد يشاركنا ألعابنا.. تحولت” الفسحة ” عنده إلى وقت عمل وإنضباط بدلا من لحظات اللهو والبهجة.. لمحته يراقبني بحسرة وأنا أنطلق بأقصى سرعة ملامسا سور المدرسة صائحا ” أمة ” _ بضم اللام _.. هل يوجد في قوانين الإنضباط ما يمنعنا من لعب ” الأستغماية”؟..
لم تكن عقولنا الصغيرة تعي بعد تلك التغيرات الجارفة التي عصفت بشخصية ” حسام”.. لم نكن نفهم مفهوم “السلطة” ذلك الفخ الرهيب الذي يبتلع المرء مثل الرمال المتحركة.. تعتصره شيئا فشيئا .. أن تشعر بالسيادة والتفوق على من حولك وأن مصائرهم ملك يمينك .. تلمحها في إرتسمات ملامح الآخرين .. إبتسامتهم الزائفة.. ضحكاتهم المفتعلة لأي طرفة سخيفة.. إنحناء ظهورهم لصاحب الحظوة والمقام.. كرامتهم المراقة ونضوب ماء الوجه.. تملقهم رجاء القربى والوصول.. المواراة والمداراة لا تخلق مشاعر حقيقية سوي التوجس والتزلف والكراهية والعداء.. تنضح المشاعر المكبوتة حال زوال السلطان. والهيبة والصولجان.. هل كرهنا ” حسام”؟.. ربما.. وإن شعرنا بالأسف عليه وعلى الأيام السالفة أكثر..
مضى أسبوع على هذا الحال.. إلى أن فوجئنا ” بحسام” ذات صباح يقف بيننا في ” طابور” الصباح وقد نزع شارة “الشرطة المدرسية”.. فتح “زر” القميص وترك الهواء ينساب إلى صدره بلا رابطة عنق.. عاد يبتسم لنا ويتودد جاهدا لإزالة الجفوة والنأي وردم الهوة.. إنتقل ليجلس في الزاوية المقصية من جديد وملابسه تعيد ماضي التهدل.. وجهه تورد ثانية.. لم يحزن لخسارته في ” الأستغماية” كما أعتاد..
فتح” حسام” حقيبته مخرجا بعض قطع الحلوى مادا يده بها إلينا.. سقطت فجأة شارة ” الشرطة المدرسية” أرضا.. إنحني مسرعا يتلقفها طاويا إياها في حقيبته مرة أخرى.. ناظرا إلينا وقد توقفنا عن الحديث والضحك.. “محبتش أرميها.. سبتها في الشنطة.. هأسيبها بعد كده في البيت”.. قال مطمئنا إيانا.. كان يبدو أنه قد تخلي عن “السلطة” وإن كان قد صعب عليه التخلي عن آثارها بعد.. أإلي هذا الحد يمتد تأثيرها الطاغي؟..نهض فجأة ممزقا ” الأستك” بيده وألقاها من الشرفة وقد بدا ” النسر ” الرابض وكأنه يحلق في الهواء.. نظر إليها وهي مستقرة في الحديقة في الأسفل وقد أطلق ضحكة مجلجلة ثم قال بلهجة مزيجا من الألم والندم والأسي ” خلاص رميتها”..
بينما أعدو خلف ” حسام” تعثرت بقوة وسقطت أرضا وقد تمزق البنطال والدماء تنز من ” ركبتي”.. أخذ “حسام” يجري لاهثا وسط صياح الزملاء.. حتى لامس السور صائحا ” أمة”.. صار يقفز عاليا فرحا كمن يطير نحو السماء.. فاز أخيرا… تقدم نحوي بمنديله محاولا تضميد الجرح يساعدني على النهوض ناظرا إلى.. سرت مستندا عليه أعرج عرجا خفيفا.. ومازال التهليل والصيحات إبتهاجا بالنصر المظفر تملأ الأجواء.