عبدالحليم قنديل يكتب: لا صفقة فى “غزة”
بيان
رغم تحركات ومفاوضات تجرى فى “الدوحة” أو فى “القاهرة” ، فلا تبدو من فرصة قريبة لإتمام صفقة بين “إسرائيل” و”حماس” وأخواتها ، ربما السبب فى تعارض جوهرى بالأهداف ، فبينما تريد “حماس”وأخواتها صفقة شاملة نهائية ، تنسحب بها قوات الاحتلال “الإسرائيلى” من كامل قطاع “غزة” ، وتعيد كل النازحين الفلسطينيين من الجنوب إلى الشمال ، وتنتهى إلى وقف إطلاق النار الدائم ، بينما يسعى “الإسرائيليون” والأمريكيون إلى شئ آخر تماما ، يستخلصون به أكبر عدد من المحتجزين لدى قوات المقاومة ، وإلى وقف إطلاق نار موقوت ، تستأنف بعده جولات القتال وحرب الإبادة الجماعية المتصلة إلى شهرها العاشر اليوم .
وربما لا تكون من قيمة كبيرة لمشاركة “ويليام بيرنز” مدير المخابرات المركزية الأمريكية فى المفاوضات الجارية ، وقد فعلها من قبل مرات ، ومن دون الوصول لاتفاق نهائى ، وكان “بيرنز” دائما يترك عواصم التفاوض إلى واشنطن ، ويدع المجال فسيحا لتصريحات شاذة تصدر عن أركان الإدارة الأمريكية ، تحمل “حماس” مسئولية فشل التفاوض ، حتى بعد ما قبلت “حماس” صيغة اتفاق عرفت إعلاميا بصفة “المقترح المصرى” فى 6 مايو الماضى ، وفى نفس اليوم ، كانت قوات الاحتلال “الإسرائيلى” تبدأ غزو منطقة “رفح” أقصى جنوب القطاع ، وهو ما كانت الإدارة الأمريكية صدعت رؤوسنا عن خطورته ، وعن رفضها لحدوثه ، لكنها عادت ووافقت عليه فور الشروع فيه ، ثم عادت للتظاهر بتسهيل التوصل لاتفاق ينهى الحرب ، وأعلن الرئيس الأمريكى “جو بايدن” فى 31 مايو الماضى عما بات يعرف باسم “صفقة بايدن” ، التى قالت واشنطن عنها ، أنها اقتراح جاءها من “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو ، فيما اكتفى “نتنياهو” وقتها بتعليق عابر ، قال فيه أن هناك “فجوات” تفصل بين إعلان “بايدن” وأصل الاقتراح “الإسرائيلى” ، وأنه لن يقبل بأى اتفاق يغل يد “إسرائيل” عن استئناف القتال ، وبعد صمت لاحق دام لأسابيع ، عاد نتنياهو لإعلان موقفه بصراحة فى حديثه للقناة 14 “الإسرائيلية” ، وقال بوضوح ، أنه يريد فقط من الاتفاق المطروح مرحلته الأولى ، وهى استعادة المحتجزين المدنيين والمجندات مع وقف إطلاق نار لستة أسابيع ، بينما كان نهج “حماس” التفاوضى مرنا وإيجابيا ، وأعلنت ترحيبها بالمبادئ الأساسية للصفقة المطروحة ثلاثية المراحل ، التى شرعنت دوليا بقرار من مجلس الأمن ، وأنها مستعدة لتفاوض جدى على التفاصيل ، فيما كانت الحملة الوحشية “الإسرائيلية” على “رفح” توالى فشلها ، ولا تحقق لحكومة “إسرائيل” شيئا مما وعدت به ، وبعد انقضاء شهرين من حملة “رفح” ، قيل من قبل الوسطاء ، أن الروح عادت لعملية التفاوض من جديد ، وأن “حماس” أبدت مرونة إضافية رحبت بها واشنطن ، وعادت “مكوكيات” التفاوض من جديد ، وسمح “نتنياهو” بإرسال وفده للتفاوض مجددا ، لكنه أضاف عقبات جديدة ، وأعلن ما أسماه خطوطه الحمراء الأربعة ، بينها أن أى اتفاق لن يمنع العودة للحرب ، وأنه لن يوافق على عودة آلاف الفلسطينيين ـ “المخربين” كما يقول ـ إلى شمال قطاع “غزة” ، وأنه يريد استعادة أكبر عدد ممكن من المحتجزين الأحياء فى المرحلة الأولى ، إضافة لشرط رابع بدا الأغرب ، وهو أنه يريد وقف ما أسماه “تهريب الأسلحة” من مصر إلى “حماس” ، وكأنه يريد تحويل الوسيط المصرى إلى خصم (!) ، مع ترويج وسائل إعلام “إسرائيلية” لما أسمى طلبا “إسرائيليا” من مصر بإقامة حاجز تقنى تحت الأرض داخل حدودها مع فلسطين ، وهو ما لم تعره “القاهرة” الرسمية التفاتا علنيا ، ولا يبدو أنها تجاوبت معه فى محادثات أمنية جرت مع رئيس “الشاباك” ، وصممت “القاهرة” على انسحاب “إسرائيل” من “معبر رفح” على الجهة الفلسطينية أولا ، وعلى عقد صفقة شاملة تنهى الحرب فى “غزة” ، وهو ما يرفضه “نتنياهو” طبعا حتى الآن ، ويتعمد إصدار أوامره لجيش الاحتلال بتصعيد القصف المجنون على “غزة” ، وإحراقها بأطواق النار وأوامر الإخلاء وتدمير المربعات السكنية من الجنوب إلى الشمال ، وتكثيف الهجمات على أحياء مدينة “غزة” من “الشجاعية” إلى “الدرج” و”الصابرا” و”التفاح” و”تل الهوى” ، ثم نزولا إلى مخيمات “النصيرات” و”البريج” و”عبسان” شرق “خان يونس” ، وتنفيذ عشرات المذابح للأطفال والنساء ، وهو ما اعتبرته “حماس” وأخواتها ـ عن حق ـ سعيا موتورا لإفشال عملية التفاوض .
وأغلب الظن ، أن جولات التفاوض ربما تتواصل ، ولكن من دون التوصل لاتفاق ناجز ، فرغم إعلان واشنطن المتكرر عن سعيها لإنهاء الحرب ، إلا أنها لا تبدى تجاوبا فعليا مع مطالب “حماس” بإغلاق الثغرات فى بنود الصفقة المطروحة ، ربما خشية من نفوذ “نتنياهو” فى واشنطن ، وهو يستعد لزيارتها وإلقاء خطابه أمام الكونجرس بمجلسيه فى الرابع والعشرين من شهر يوليو الجارى ، بينما إدارة “بايدن” فى أحرج أوقاتها ، وتبدو مضطرة إلى انصياع لمطالب “نتنياهو” وربما أوامره ، فالرئيس “بايدن” محاصر حتى من كبار أهله فى الحزب الديمقراطى ، وكثيرون بينهم يطالبونه بالانسحاب من سباق الرئاسة ، وإحلال مرشح ديمقراطى آخر ، والرئيس العجوز مصر على إكمال الطريق حتى إجراء الانتخابات فى 5 نوفمبر المقبل ، رغم أن كل استطلاعات الرأى تعطى غريمه الجمهورى “دونالد ترامب” تفوقا ظاهرا ، خصوصا بعد إخفاق “بايدن” المخزى فى المناظرة الرئاسية الأولى ، وهو ما يعطى “نتنياهو” فرصة الإجهاز على “بايدن” ، بعد ابتزازه إلى الحد الأقصى ، وإرغامه على توريد كل صفقات السلاح الأمريكى المطلوبة فورا لجيش الاحتلال “الإسرائيلى” ، وفى أوقات الانتخابات الأمريكية كالعادة ، يصعد نفوذ “اللوبى الإسرائيلى” فى واشنطن إلى ذروته ، ويرضخ المرشحون للرئاسة وللكونجرس لطلبات “أيباك” أقوى منظمات الضغط الصهيونية فى واشنطن ، ومرشحو الحزب الديمقراطى للكونجرس يخشون الهزيمة ، خاصة إذا تمسك “بايدن” بالترشح الرئاسى مع غضب “نتنياهو” عليه ، ويخشون فوزا مريحا لمنافسه “ترامب” وحزبه الجمهورى ، وهو ما يفضله “نتنياهو” ، ويريد استمرار الحرب فى “غزة” ، وربما مد الحرب إلى “لبنان” ، حتى يأتى “ترامب” إلى البيت الأبيض أوائل العام المقبل ، وفى حين تبدو الطرق سالكة أمام “نتنياهو” فى واشنطن ، فإنه لا يزال يبدو قادرا على المناورة فى “تل أبيب” ، وعلى تحدى المطالبات المتزايدة بعزله وإجراء انتخابات مبكرة ، فالبرلمان “الإسرائيلى” “الكنيست” سيدخل فى أجازة طويلة أواخر الشهر الجارى ، ولن يعود للانعقاد إلا فى شهر نوفمبر ، وما من فرصة إجرائية لدعوة إلى انتخابات مبكرة إلا من خلال “الكنيست” ، هذا بالطبع إن توافرت أغلبية برلمانية تهدد بقاء الحكومة ، وتقرر الدعوة لانتخابات مبكرة ، لن يمكن الشروع بها قبل مارس 2025 ، وهكذا يبدو الطريق مفتوحا أمام “نتنياهو” لشراء وقت إضافى ، يناور به مظاهرات أهالى المحتجزين بدعوى استمرار التفاوض مع “حماس” ، ويتيح لنفسه فرصا لمواجهة تذمر جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية ، وربما استخدام سلطته فى تغيير بعضهم أو كلهم ، وتحميلهم مسئولية خسارة الحرب فى “غزة” ، وقبلها مسئولية الإخفاق المذل فى 7 أكتوبر 2023 ، فهدف “نتنياهو” وأولوياته ظاهرة ، وهى أن يبقى فى منصبه لأطول وقت ممكن ، وما من وسيلة متاحة أمامه سوى الاستمرار بالحرب إلى أطول أجل ، والاستطراد فى ترديد أوهامه عن السعى إلى ما يسميه نصرا ساحقا ، لا يبدو ممكنا مهما طال أمد القتال ، فقد صار الكل فى “إسرائيل” عدا “نتنياهو” وصحبه ، يؤكدون أنه لا سبيل حربى إلى تدمير “حماس” وأخواتها ، وحتى “دانيال هاجارى” المتحدث الرسمى باسم جيش الاحتلال ، الذى قال قبل أسابيع أنه لا يمكن القضاء على “حماس” كفكرة ، عاد قبل أيام ، وأكد فى حوار لمحطة تليفزيون أمريكية ، أن “حماس” كتكوين قتالى ستبقى فى “غزة” لخمس سنوات مقبلة على الأقل ، وهو ما يعنى غرق الجيش “الإسرائيلى” فى وحل “غزة” ، واتصال حرب استنزاف دموى لضباط وجنود جيش الاحتلال ، وبالذات مع إضافة آلاف المقاتلين المتطوعين لكتائب “حماس” وأخواتها ، ومرونة الكتائب الفائقة ، ومقدرتها على التحرك بحرية فى قطاع “غزة” من الجنوب إلى الشمال وبالعكس ، عبر شبكة أنفاق مذهلة متشعبة لا تنفك ألغازها ، وعبر ركام المبانى التى هدمها جيش الاحتلال نفسه ، وهو بعض ما يفسر تنامى فعل حركات المقاومة فى الشهور الأخيرة ، وتكتيكاتها المتفوقة فى تدبير وتنفيذ كمائن القتل لقوات جيش الاحتلال ، وإضافة مدد لا ينفد من الأسلحة التى تصنع ذاتيا فى ورش تحت الأرض ، إضافة لتطور عمل حركات المقاومة ذاتها فى مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، وتصاعد هجمات “حزب الله” على شمال فلسطين المحتلة ، وهو ما يعنى للمفارقة ، أن الجحيم الذى يصنعه “نتنياهو” سيكون هو أول من يحترق فيه ، وأن فرص القضاء على “نتنياهو” بالقتال أقرب من فرص تدمير “حماس” وأخواتها .