محمد قدرى حلاوة يكتب: « مكواة رجل »

بيان

(١)

” خد بالك منهم يا عم” مصطفى ” متخليهومش يغيبوا عن عينك دولا عيال عفاريت”.

كانت تلك وصية عم ” عيد” سائق سيارة الأجرة التي أستقلها كل يوم من منزلي بحي ” السيدة زينب” إلى مدرستي الإبتدائية بحي ” المنيل”، إلي ” عم مصطفى” ” مكوجي الرجل” صاحب الحانوت المواجه للمدرسة .

كنا حينها مجموعة من الرفقاء من سنوات دراسية مختلفة جمعهم ذلك المشوار اليومي من البيت إلى المدرسة والعكس.. ورفقاء المشوار قد تدوم علاقاتهم وتتعمق إلى صداقة وقد تنقطع لأنها وليدة الإضطرار ولم تكن يوما قرارا أو اختيار.. لذلك لم نجتمع على شئ أو نتفق.. سوي حب ” عم مصطفى” وممارسة لعب ” البلي” بعد الانصراف إنتظارا لقدوم ” عم عيد”.

كانت تبدو لنا ملامح صداقة عميقة بين ” عم مصطفى” و ” عم عيد” لم نهتم بالطبع بالتحقق والتوغل في جذورها واكتفينا بملامحها التي تجلت لنا حينها في احتساء ” الشاي” المغلي وتدخين ” السجائر” و” الشيشة ” و ” القعدة” التي يتفرغ لها ” عم مصطفى” ويترك كل ما بيديه عندما يأتي إلينا ” عم عيد” فى موعد العودة وما يختص به بعضهما البعض من خصوصيات وأسرار.

كنا نحب ” عم مصطفى” لأسباب عديدة.. نراه ساحرا أو لاعبا في سيرك ونحن نرقب حركات جسده ويداه وقدمه وهو يمارس مهنة ” الكواء “.. إلي درجة أن أحد الرفقاء حاول تقليده وتحريك ” مكواة ” المنزل الحديدية الثقيلة كما يفعل ” عم مصطفى ” فما كان سوي أن سقطت على قدمه وأصيب ببعض الحروق وشرخا في ” كاحله” وظل في الجبس لأسابيع.

كما أنه لم يكن ينفذ وصية ” عم عيد” حرفيا ويتركنا نذهب إلى محل ” البقالة” القريب لنشتري “اللبان” وأكياس” الكاراتيه”.. أو أن نلعب في الحديقة المجاورة.. شريطة أن نأتي فورا عندما نسمع بوق سيارة ” عم عيد”.. وقد أحببته بصفة خاصة لأنني في أحد الأيام وبينما كنت مشغولا بالعراك مع أحد الرفقاء الذي أعطاني ” بلية” مكسورة من جانبها.. نسيت دس كيس ” البلي” وإخفائه في حقيبتي.. وظننت أن والدي قد اكتشف الأمر ووجده وهو من نهاني عن اللعب فى المدرسة والانتباه إلى دروسي وانتظرت عقابا شديدا.

وفي اليوم التالي وبينما أقف شاعرا بالحزن والخيبة وأراقب رفاقي وهم يلعبون.. وجدت ” عم مصطفى” يناديني قائلا : ” خد يا عم محمد.. إنت نسيت كيسك جنب الحفرة.. خد يا عم العب واتبسط.. ناولني القلة أحسن عطشان”.

(٢)

كان حانوت عم ” مصطفى” صغيرا قديما بلا لافتة تدل عليه يقع أسفل عمارة عتيقة علي جدرانها وشرفاتها منحوتات فنية بارزة لوجوه إغريقية تدل على ذوق رفيع.

كانت جدران المحل ” مرشوشة” بالجير سماوي اللون.. وقد تساقطت طبقات كبيرة منه وظهر اللون الرمادي ” للمحارة” كأنها السحب قد غطت وجه السماء.

في الواجهة صورة كبيرة ” لجمال عبد الناصر” داخل إطارا خشبيا باليا مغلفة بقطعة من الزجاج المشروخ .. وحولها صورا ورقية لنجوم نادي الزمالك في السبعينييات ” حسن شحاته” و ” فاروق جعفر” و ” على خليل” مكتوبا تحتها هدية مع العدد من مجلة ” الكواكب”.

منضدة خشبية كبيرة لا تعلو عن الأرض كثيرا وقد غطتها بكاملها ملآة زرقاء تحتها ” بطانية” صوفية رمادية اللون.. وقد بسطت قطعة ملابس عليها، بينما ” عم مصطفى” يقبض بكفه على يد ” مكواة الرجل ” ويحركها بقدمه بمهارة فائقة ويقلب الثوب على وجهيه متناولا بيده الأخري إبريقا معدنيا صغيرا ” كوز” ناهلا جرعة من الماء منه ليبثها ( يبخها) على امتداد قطعة الثوب ” المنبسطة أمامه متحركا برأسه وفمه كي يصل الماء لكل جزء فيه.. وهنا تسمع صوتا مألوفا ناتجا من اصطدام الماء بالحرارة وتتصاعد بعض الأدخنة الخفيفة.

في أقصى ركن من الحانوت “كانونا” يلون الحائط بالسخام موضوعا عليه ” مكواة رجل ” أخرى.. يتناولها” عم مصطفى ” قابضا عليها ” بخرقة” مصفرة ليواصل عمله عندما تبرد وتخفت حرارة ” المكواة” التي يستخدمها ليضعها هي تلك المرة على ” الكانون”.. وهكذا دواليك في حركة لا تنقطع.

في زاوية من المحل ” بابورا” يستخدمه ” عم مصطفى” فى إعداد الشاي المغلي و ” تسخين” الطعام المخزن”، بالعمود” المعدني الذي ينسى تناوله في موعده كثيرا عندما ينهمك في العمل.. وكذا لإشعال قطع الفحم الأسود لتدخين ” الشيشة” وقت فراغه من العمل وحصوله على قسطا من الراحة.. وعلى أحد الأرفف تلفاز أبيض وأسود صغيرا كان” عم مصطفى” لا يفتحه سوي عندما كان يعرض فيلما ” لإسماعيل ياسين” أو مباراة في الدوري.. وجهاز راديو ضخما متوقفا مؤشره على إذاعة “القرآن الكريم” ولا يتحرك سوي بعد أن يحوله ” عم مصطفى” فى الساعة الخامسة عصرا على إذاعة ” أم كلثوم”.. وانتشرت هنا وهناك ملاءات معقودة بربطات الملابس الآتية من الزبائن.. وقد أخذ “، مسعد” ” الصبي ” الصغير الذي يعاونه يستحث الخطو كل يوم جيئة وذهابا.. صاعدا هابطا.. موصلا الملابس لأصحابها وآخذا تلك الجديدة المراد كيها.. مكتفبا بقروشه القليلة من ” البقشيش” الذي يمنحه إليه الزبائن ووجبة ساخنة وثلاثون قرشا يمنحمها إليه ” عم مصطفى” كل يوم.

كان ” مسعد ” يتابعنا بنظراته يكاد يتحرق شوقا ليلعب معنا.. هو صديقنا الذي يحمينا من أبناء الحي المناكفين.. وجدته يقول لي مرة دون أية مناسبة ” على فكرة.. أنا بأعرف أفك الخط.. وأقدر كمان أكتب اسمي ” وربت على كتفي وغادرني بسرعة وقد حمل على يده اليمني ” شماعات” الملابس” المكوية” بينما يقود دراجته بيده اليسرى.

(٣)

” عم مصطفى” رجلا في العقد الخامس من عمره.. طويل القامة.. نحيل البدن.. أشيب شعر الرأس .. يرتدي ” جلبابا” صيفا وشتاء ولا يزيد أو ينقص عليه شيئا سوي معطفا ثقيلا مسدلا في الليالي الباردة والماطرة يشبه معاطف ” الخفراء”.

يعتمر دوما ” طاقية” بيضاء اللون كان يتفائل ويتبارك بها فقد أتى له بها أحد زبائنه من ” الحجاز”.

ينتعل حذاء رياضيا أبيضا خفيفا من ماركة ” باتا” الذائعة حينها.

له شارب ثقيل وعينان ضيقتان يحيط بهما هالة من السواد.. وكان يسكن في غرفة على سطح نفس البناية التي يقع أسفلها الحانوت.

له ولدان يدرسان في الجامعة ” أحمد” و ” سيد”.. وبنت وحيدة ” زينب” فى المرحلة الثانوية.. كنت أسمع ” عم مصطفى” يشكو دائما ” لعم عيد” من أبنائه ويبثه مخاوفه وهمومه.

كان يقول له إن ” أحمد” و ” سيد” مهتمان بالسياسة وإنهما منضمان لحركات طلابية داخل الجامعة.. وإنه يخشى أن يؤدي بهما هذا إلى الاعتقال وخصوصا بعد ما حدث من مظاهرات في يناير الماضي ( ١٩٧٧) ثم صاح مستنكرا فجأة وهو يضرب كفا بكف مخاطبا عم ” عيد” : ” ثم يا أخي دول متفهملوهمش.. شوية ماليين البيت بكتب الجماعة الشيوعيين الكفرة وخصوصا الجدع أبو دقن مترين ( لعله يقصد ماركس).. ودلوقتي مربيين دقنهم وعماليين يا أخويا يقولولي أنا وأختهم كده حرام وكده حلال.. خايف عليهم يا عيد”.

وعندما نزلت ” زينب ” من المنزل هابطة الدرج لكي تناول والدها ” عمود ” الطعام قطعا حديثهما فجأة.. و تعلقت عيوننا نحن” بزينب ” وتوقفنا عن رمي ” البلي ” فى الحفرة.. كانت تجسد لنا في حينها” ربة ” الجمال بعيناها التي تجمدنا عن الحراك أصناما متأملة شاردة في خيالات سحرية.. وابتسامتها الآثرة المسفرة عن غمازتين تزيدها سحرا.. وشعرها الأسود المعقود برباط صغير تتمنى أن تحله لتراه طائرا سادرا حرا يعبث به الهواء ويفئ بالظل على الأرواح.

بعد أن غادرت ” زينب”، أسر ” عم مصطفى” ” لعم عيد” قائلا : ” البت كبرت يا عيد وخايف عليها.. عايز أجوزها وأطمئن عليها.. إبن خالها متقدم ليها.. بس حاسه واد طايش كده ومش راكز” ، ثم تنهد ونهض لمواصلة عمله قائلا : ” المرحومة ( زوجته) كانت شايلة عني كتير.. تقلت عليك يا عيد قوم شوف حالك.. اللي فيه الخير يقدمه ربنا”.

ونهض ” عم عيد” وانصرفنا معه ذاهبين إلى منازلنا.. وقد جمعنا ” البلي ” وأخفيناه في حقائبنا.. وكل منا يتمتم في سره داعيا أن تفشل تلك الزيجة.

(٤)

مررت بالصدفة منذ شهور من أمام المدرسة.. وقد أخذت الذكريات تعصف في رأسي وتشعل عاطفتي وتكاد حمم الوجدان أن تنطلق منه مندفعة تمور.. ” الفصل”، ” الحوش”، ” الفسحة”، “الرفاق”، ذكريات تحيينا ولاتموت.. ما أحزنني كثيرا أنني لم أجد دكان ” عم مصطفى” لم أجد البناية برمتها.. زالت ومحت الوجوه ” الإغريقية” المنحوتة التي كانت تميزها.. وحلت محلها بناية عملاقة شائهة تتميز بواجهات ” الألوميتال” ووحدات ” التكييف ” تبرز منها كوجوه كريهة تهدر بصوت بغيض.

مطعم وجبات سريعة قد احتل مكان حانوت ” عم مصطفى” وقد تجمّع حوله بعض الشباب متكئين على سيارات حديثة على وقع أنغام موسيقى غربية هادئة.

تذكرت حديثا ” لعم مصطفى” وهو يبث ” عم عيد” خشيته وتوجساته من المشاكل الحادثة مع صاحب البناية الذي يريد هدمها ويهدده دائما بأنه ” واصل” وأن كلمته نافذة على ” رئيس الحي “.

كان غير قانعا ” بالإيجار القديم” الذي يدفعه السكان ويريد بناء بناية جديدة و ” شقق تمليك” و ” مفروشة “.. قال عم مصطفى محدثا صاحبه : ” هنروح فين أنا والعيال.. وهناكل منين.. مش كفاية الشغل اللي قل وكل واحد راجع لي من الخليج “جارر مكواة ” كهرباء في إيده؟ “.

لم يكن صاحب البناية يدرك بالطبع حين هدمها بعد حين و سرق حلم ” عم مصطفى” وأولاده أنه سرق أحلامي وذكرياتي أنا أيضا.. اغتصب الضحكات وأخرس الصيحات التي احتلت تلك المساحة من الفضاء يوما ما.. سرق كيس البلى وردم الحفرة كذلك.

أردت دوما أن أصرخ في أوجه هؤلاء القوم صائحا : “أسلبوا كل شئ وتمرغوا فيه وزيدوا منه.. ولكن أتركوا لنا ذكرياتنا.. هي خاصتنا وملكنا وحدنا فلماذا تنازعونا فيها؟.. دعوا لنا شيئا واحدا يستحق الحياة “.

لا أعلم بالطبع أين ذهب “عم مصطفى” وإن كنت أعرف إلي أية حال قد صارت مهنته.. ماذا فعل الزمن ” بأحمد ” و ” سيد ” وهل استقرت قناعتهما أم تبدلت مرة أخرى؟.. وإلى أية أرض ومصير قد صار ” مسعد” ؟.. أين رحلت” زينب ” وهل تزوجت ابن خالها ذلك الطائش حقا؟.

طالع المزيد:

زر الذهاب إلى الأعلى