د. محمد إبراهيم بسيونى يكتب: أندريهات العصر الحديث

بيان

كتب فولتير قصة أصدرها عام ١٧٦٦ بعنوان «الرجل ذو الأربعين ايكو»، كتبها وهو في الثالثة والسبعين من عمره، للشعب والمواطن الفرنسي الكادح الذي كان يضغط ويصهر تحت براثن حكومة بيروقراطية المنهج وميكافيلية الروح في تلك الحقبة التي انتشر فيها الفساد الإداري والمالي والأخلاقي .

وفهم الشعب جميع نصوص فولتير وأحبها فكانت لهم بمثابة شعلة وطنية يستنيروا بها أثناء سيرهم نحو العالم الجديد، وأستعصت على البرجوازيين والنقاد والأدباء والمثقفين ومسئولي الحكومة الفرنسية، فكانت حروفه ضبابية بالنسبة لهم، فلم يستطيعوا فهمها وعزوا ذلك إلى العمى الذي أصاب بصيرتهم وقلوبهم، لاسيما – إن علمنا – أن تلك الشرائح كانت مشبعة بالفساد.

القصة باختصار تحكي قصة المواطن الفرنسي المتوسط الذي لا يقل دخله الشهري عن ٤٠ إيكو (والإيكو هو اسم العملة الفرنسية خلال القرن الثامن عشر) الذي تدور فيه أحداث القصة، لكن وضع “أندريه” وهو اسم بطل الرواية، كان من الناحية المادية والإقتصادية يعكس “مرثية نقدية”، ذلك انه يقتطع من دخله شهريا ١٢ إيكو، على شكل ضريبة على أملاكه التي لا تكاد تذكر، والتي توفر له المرتب الشهري المذكور.

وبسبب هذا الاقتطاع الضريبي يهبط أندريه من مركزه ضمن الطبقة الوسطى ليجد نفسه ضمن مجموعات الطبقة الدنيا، ومن سوء طالعه لم تكتفي الدولة بتلك الضريبة العقارية، وهي التي تعتبر نفسها شريكة في الأرض والمال والمدخولات، لتجرد أندريه من عشرين إيكو إضافية تحت بند “ضريبة حربية”.

وهنا لم يعد أندريه في وسعه ان يسدد التزاماته المالية وأستصعب عليه كفاف يومه وتراكمت عليه الديون من جميع الاتجاهات المعيشية وكنتيجة حتمية، يلقى اندريه في السجن بكل سهولة وهدوء.

وبعد انقضاء فترة السجن والتي قد ساوت قضائياً “تسديد الدين” يطلق سراح اندريه ليلتقي برجل من طبقة الأغنياء يملك مليون إيكو، ويفشي لأندريه سراً لم يرتد على إثره طرفه لثواني طويلة فهذا الرجل الغني لا يدفع أية ضرائب ولا يساهم في أي معونات حربية، فيزداد ذهول أندريه وتدور في رأسه سلسلة من الأسئلة المبتورة، لكنه لا يصل إلى أي نتيجة، فيقرر ان يستعين بمن لديه الخبرة والمعرفة بمثل هذه الأمور التي لم يستوعبها عقله.

ومن هنا يلجأ أندريه الى عالم في الحسابات والأرقام يقوم بشرح ما يمكن شرحة، وبعد عدة لقاءات في شرح أنواع الضرائب وأنظمتها وشروطها، يلجأ الى خبير في الزراعة ليطلعه على طرق الإدارة فيها وكلفتها ومردودها.

ويزداد شغف أندريه بالمعرفة وحبه للتعلم أكثر، لكنه يجد نفسه دوما أمام مشكلات وأسئلة جديدة هذه المرة لها علاقة بالهيئات الدينية، التي يرى أنها تتدخل في الشؤون المالية دون وجود علاقة اختصاص تربطهما، مع ذلك اكتشف أن المؤسسات الدينية لها تأثير كبير في صناعة الأغنياء والفقراء على حد سواء ووقودها في ذلك الجهلة من الناس، وأصبح يعي أندريه مدى أهمية وضرورة ان يكون المرء متعلماً أياً كان نوع هذا العلم ليعرف خبايا الأمور ويسبر الأعماق المظلمة حتى لا يصبح لقمة سائغة لأنياب العدالة الظالمة.

وتوصل لأول مليون إيكو في حياته من خلال المعرفة الضارة والعلم الأسود بتعلم الحيل والتحايل، وإن كان المسيو أندريه قد فعل ذلك، فهناك الكثير أمثال المسيو أندريه الذين كونوا الملايين بل المليارات دون أن يشعلوا عود ثقاب واحد ليضيئوا به أفعالهم ليروها الناس، وآثروا العمل في الظلام فكونوا ثروات قذرة.

وأخيرا فأندريهات العصر الحديث ليسوا بحاجة لمن يعرفهّم ويعلمهم ويوجههم نحو طريق الفساد.. هم بحاجة لرقابة عمياء وحماية الأقوياء وشعب مستسلم مثقل بالهموم وسماء تخفي ظلالهم تملؤها الغيوم.

اقرأ أيضا للكاتب:

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى