القس بولا فؤاد رياض يكتب: المسيحية والمجتمع
بيان
يحيا المسيحي في وسط مجتمع أسري أو عالمي، وهذا المجتمع خلقه الله.
“وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا.” (تك 1: 31)
كان السيد المسيح في فترة تجسده على الأرض نموذجاً للمسيحي في المجتمع فقد سار في طريق الناس العادية.
كان مُتميزاً عن يوحنا المعمدان الذي عاش في البرية منفرداً معتزلاً زاهداً.
ذهب السيد المسيح إلى عرس قانا الجليل مع تلاميذه وحضر ولائم كثيرة أُعدت له.
كان له عدد من الأصدقاء كأسرة مريم ومرثا ولعازر.
كما نجد من أمثال السيد المسيح ما يدل على اتصاله التام بالحياة العملية (العشاء العظيم، الابن الضال، قاضي الظلم)
لم يكن السيد المسيح مُنشغلاً عن الناس في زهد وتصوفً، بل دخل إلى أعماق حياتنا.
وعندما صلى صلاته الشفاعية قال “لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ.”(يو17: 15)
وقال لتلاميذه ولنا أيضاً: “أنتم ملح الأرض … أنتم نور العالم”
لم ينزل السيد المسيح إلى مستوى العالم الأخلاقي، بل عمل على أن يرفع العالم إلى مستواه.
(السفينة تسير على الماء لكنها لا تسمح لماء البحر أن يتسرب إليها وإلا أغرقها)
أولاً: ما هي المبادئ المسيحية في خدمة المجتمع؟
١- كل من يحتاج إلينا هو قريب لنا، علينا أن نحبه كنفوسنا، وهذا واضح في مثل السامري الصالح ،وفي الوصية العظمي الثانية في الناموس “وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.” (مت 22: 39). “فَأَجَابَ وَقَالَ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ».” (لو 10: 27).
٢- النفوس كلها مِلك الله. لذلك كل اضطهاد او ظلم يقع على الناس مثل الإتجار بالبشر غير مقبول عند الله.
٣- محبة الجميع “وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ.” (لو 6: 32)
٤- القانون الذهبي الذي يقول “وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا.” (لو 6 :31)
٥- احترام إنسانية الإنسان الذي خُلق على صورة الله “تكوين ٢٧”، وتقديس حريته فحرية الإنسان هي منحة جزيلة الشرف، شَرَف الله الإنسان بها (إن حرية الإرادة هي القدرة على قبول تصور ما أو رفضه ).
٦- الإنسان المسيحي عضو في الكنيسة له حق عضوتيها كمؤمن، وعليه مجموعة من الالتزامات والمسئوليات.
٧- السلوك الإنساني (الاجتماعي) ليس سلوكاً موروثاً، لذا نرى أنه بالتوجيه السليم، يمكن تعديل هذا السلوك إلى السلوك الإيجابي والأفضل.
ثانياً: الاتجاهات التي تُميز خدمة وحياة المسيحي في المجتمع:
– كان بولس الرسول يشجع الكنائس أن تقدم عطايا ومساعدات. فالمسيحي كملح للأرض ونور للعالم لذلك عليه أن يقدم الخدمة للجميع “فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ.” (رو 12: 20)
– كان استخدام السيد المسيح لتعبير الخدمة ثورة في المفاهيم والقيم المعروفة حيث قال: ” وإذا كُنتُ أنا السيّدُ والمُعَلّمُ غَسَلتُ أرجُلَكُم، فيَجِبُ علَيكُم أنتُم أيضًا أنْ يَغسِلَ بَعضُكُم أرجُلَ بَعضٍ. وأنا أعطيتُكُم ما تَقتَدُونَ بِه، فتَعمَلوا ما عَمِلتُهُ لكُم. الحقّ الحقّ أقولُ لكُم: ما كانَ خادِمٌ أعظَمَ مِنْ سيّدِهِ، ولا كانَ رَسولٌ أعظَمَ مِنَ الذي أرسَلَهُ.” ( يو ١٣ : ١٤-١٦)
ثالثا: مشاركة الجميع:
“لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ.” (مت ٢٥: ٣٥- ٣٦).
إذاً مشاركة الجميع مهمة جدا وضرورية.
١- الإيجابية:
كان السيد المسيح يجول يصنع خيراً
علينا أن نعمل والله هو الذي يوفقنا
إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي (نح ٢: ٢٠).
٢- الموضوعية في الحياة:
حيث تقلل كثيراً من الرياء والنفاق الاجتماعي
٣- عدم إدانة الآخرين:
” ولو كان أُمسك أحدهم في زنا ” (يو ٨)
٤- معالجة من الجذور:
تهتم المسيحية بمعالجة جذور الانحرافات والخطايا لا مظاهرها. فقد اهتم السيد المسيح بالدوافع التي وراء الانحرافات، فاعتبر الغضب أساس القتل، والنظرة الشريرة أساس الزنا ….. وهكذا
لذلك جريمة مثل تجارة البشر والهجرة غير الشرعية علينا بتحديد أسباب هذه الجرائم والدوافع وذلك لمنعها إقليمياً ودولياً.
رابعاً: موقف المسيحي حسب متطلبات العصر من المجتمع:
١- أن يقبل ويحب هذا المجتمع بالرغم ما فيه من تيارات خطيرة وشر وفساد قد لا توافق الذوق والضمير المسيحي
“لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.” (يو 3: 16).
٢- أن يكون مُتفتحاً على المجتمع، متفاعلاً ومنفعلاً به على أساس روحي، بمعنى أن يكون إيجابيا لكل الظروف والملابسات والأشخاص بالتفاهم والتفاعل الإيجابي.
٣- أن يشبع حاجاته البشرية على أساس روحي مثل:
أ- الحاجة إلى تحقيق الذات
ب- الحاجة إلى الانتماء للوطن وللأسرة البشرية (الإنسانية)
ج- الحاجة للأمن
خامساً: سمات النفس المسيحية في المجتمع:
على سبيل المثال
١- تعيش مستقرة وإيجابية
٢- تتجاوز المؤثرات الخارجية
٣- تبذل بلا نفعية
٤- تقبل الآخرين كما هم لا كما تريدهم أو يجب أن يكونوا
٥- تدرك أن غاية الأخلاق الحسنة هي الإنسان ويتعامل مع الجنس الآخر كشخص وليس كشيء (يراعى ذلك في تجارة البشر من النساء)
٦- ماذا تعطينا الحياة الاجتماعية كمسيحيين:
١- خبرات التعامل مع أنماط متباينة من الناس
٢- تكوين شخصية مستقلة ناضجة متزنة ومتكاملة نتيجة إشباع الحاجات النفسية
٣- أسلوب رفيع في التعامل مع الجنس الآخر
٤- الاتساع في الأفق المعرفي والاجتماعي والروحي
٥- خدمة الآخرين الفرد والجماعة
٦- اكتساب سمات شخصية ناجحة
٧- احترام حرية الآخرين وفهمهم ومشاركتهم وعدم التعالي عليهم
٨- عدم الاهتمام بالذات أكثر من الناس حتى لا ينحرف عن المجتمع.
٩- القدرة على التكيف مع ايا كان نوعه
١٠- اكتساب مبادئ وأهداف روحية واجتماعية
١١- تكوين نظرة عامة وجادة للحياة وأن يكون عضواً إيجابياً في المجتمع.
١٢- اكتساب القيم الصاعدة التي تدفع الإنسان نحو التغيير لما هو صالح وتحقق تكامل الشخصية.
سادساً: أثر الفضائل المسيحية في حياتنا الاجتماعية:
١- تفاعل الإنسان مع المجتمع
٢- عمل الخير كل يوم للجميع “فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ.” (غل 6: 10).
٣- تحويل الإساءة إلى مصدر بركة
٤- فهم الناس وتقبلهم وأن نضع أنفسنا مكانهم
٥- التدريب على الاستماع الجيد للأخرين
٦- تقديم الآخرين على أنفسنا
٧- السماحة والعطاء والحب
٨- الانفتاح الفكري هو أساس التعامل في كل الأمور الاجتماعية
سابعاً: سلوك المسيحي نحو الوطن والمجتمع البشري العالمي:
١- في الوحدة الوطنية، ورفض التعصب الديني وحسن الجوار.
٢- تدعيم روح الانتماء لوطننا العالي مصر، وتكوين المواطن الصالح ومدى الولاء للوطن.
٣- الإسهام في رفع مستوى التفاهم الدولي بين سكان العالم لخلق المواطن العالمي.
٤- ممارسة الحقوق المدنية، والسياسية، والقومية والاجتماعية.
“فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.” (مر 12: 17).
“فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ.” (رو 13: 7).
ثامناً: سلوك المسيحي في المجتمع:
١- أن يعمل الأعمال الحسنة في المجتمع، ويقدم الخير للجميع، ويؤدي عمله بإتقان ومحبة.
٢- محبة الجميع حتى مستوى الأعداء وعدم إدانتهم أو الغضب عليهم أو اهانتهم، بل احترامهم وتقديرهم.
٣- التسامح وعدم الوقوف في وجه الشر “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا.” (مت 5: 39).
واحتمال الاخرين ومسالمة الجميع “إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ.” (رو 12: 18).
والامتناع عن الانشقاق ” كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ” (مت 12: 25)
ووضع أنفسنا في موضع الآخرين ومجاملتهم بغير نفاق.
٤- الابتعاد عن البر الذاتي وعدم المبالغة في تقدير قيمة النفس.
٥- التمسك بالقيم (التواضع، المحبة، إنكار الذات، التسامح، البذل، العطاء الخفي، الطهارة، إنكار النفس…).
٦- أن يتسم باللياقة والأناقة والبساطة وعدم التكلف في الملبس أو الحديث أو المظهر.
٧- الحب مع الحزم والبساطة مع الحكمة والوداعة مع الشجاعة غير المتهورة، والطيبة مع القوة، وروح المرح غير المبتذل.
٨- الامتناع عن التصرفات والشهوات الجسدية لعدم الخطأ بالنسبة للأشخاص أو الأموال.
٩- عدم إدانة الآخرين والامتناع عن كل ما يسئ إليهم سواء بالقول أو بالفعل وأن يُلجم لسانه فلا يتلفظ بكلام القباحة والسفاهة والهذر. بل يحفظ لسانه ويجلس في مجلس الشرفاء مبتعداً عن مجلس المستهزئين، ولا يقف في طريق الخطاة، ويهرب من الشهوات الشبابية
“أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ.” (2 تي 2: 22).
١٠- أن يكون مواطناً صالحاً غير متعصب أو متحيز مشاركاً أبناء وطنه أفراحهم وأحزانهم.
١١- العيش مع الجميع في محبة، وهدوء، ووداعة، وسلام.
قال مرة اللورد كرومر في وصفه للمصريين إنه لا يستطيع أن يُميز بينهم إلا في وقت الصلاة فالمسيحي يذهب إلى الكنيسة والمسلم يذهب إلى الجامع.
دامت وحدتنا الوطنية، فهي أساس رسوخ وقوة جبهتنا الداخلية.
نصلي أن يُعم السلام بلادنا العزيزة مصر وأن يحفظ قائدها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي بصلوات قداسة البابا تواضروس الثاني.
……………………………………………………………………
كاتب المقال: ” كاهن كنيسة مارجرجس المطرية القاهرة ”