“ قل شكوتك ”.. عشرة قراريط مودة
كتبت: أسماء خليل
ربما لا نملك من حُطام الدنيا سوى عشرة قراريط، وربما نكون بتلك الأرض من أسعد السعداء، في حالة واحدة فقط إن تم زراعتها حب ورحمة ومودة، لكن إن نبتت منها زرعة البغض وسوء العشرة واستغلال الآخر بالحياة، فتلك هي الطامة الكبرى.
أعتقد أن ما سبق هو مقدمة مناسبة لشكوى أرسلتها السيدة “و.ز”، عبر البريد الإلكتروني راجيةً من الله تعالى أن تجد من ينزع عنها سهام الحزن والحسرة على أيام وسنوات قضتها ربما بالمكان الخطأ.
المشكلة
أنا “و.ز” زوجة بالخامسة والأربعين من سِنِي عمري، أعيش بإحدى محافظات الدلتا لدي أربعة أبناء ولدان وبنتان حاصلة على مؤهل متوسط وعلى قدر معقول من الجمال.. كنت أعيش في دار أهلي في رغد من العيش بالإضافة إلى كرم أبي وأمي فقد كان الحنو يملأ قلبيهما.
حينما كنت شابة صغيرة في مقتبل العمر تقدم لخطبتي الكثيرون إلى أن كان النصيب مع زوجي الحالي، فهو حاصل على مؤهل عال ولديه شركة كبيرة للتجارة والبيع بالجملة لها فروع في أنحاء مصر، كان يغدق علينا بالهدايا أنا وكل أسرتي أثناء فترة الخطوبة وكم كان يحبه الجميع، بالإضافة إلى أنه كان خلوقا طيب القلب.
تمت زيجتنا على خير بفضل من الله، وكم كنت سعيدة جدا بزوجي وحياتي ..كانت أسرة زوجي تعيش بجوارنا في بيتهم الذي كان يحوي ثلاث طوابق؛ طابق منهم تستقله أم زوجي وطابق لشقيق زوجي وامرأته وأولاده وطابق آخر لأخته وزوجها وأولادهما ..
لم يكن يزعجني وجودهم بجوارنا ولكن تصرفات زوجي هي التي فاقت الحد؛ فقد كان يكسب من شركته أموالا لا حصر لها ويلقيها بأدراج المكتب والدولاب بلا رقابة، ثم يغدق أيما إغداق على أهله.
باتت مظاهر الترف على زوجي وأسرته، فكان زوجي يصطحب أمه كل عامٍ للذهاب إلى مكة وعمل عمرة ، هي وأحد أخوته إن أرادوا، بالإضافة إلى أنه قام بقضاء الحج هو ووالدته أيضًا، وكان حينما يأتي يغدق على جميع أسرته بالهدايا باهظة الثمن.
كم نصحته بأن يقتصد، فالحياة لا تسير على نفس الشاكلة طوال الوقت، ولكنه كان يأبى أن ينتصح ولو بكلمة واحدة مني.
ولم أكن – بحق الله – أريد أن يقتص شيئًا من عطفه على أهله، ولكني فقط كنت أحاول أن أنبهه قبل فوات الأوان.. الأهم أنه لم يبالِ بكلامي، ولكن حدث معي ما لم أكن اتوقع.
كان قلبي يهفو لزيارة بيت الله، وهو يعلم جيدا مدى شوقي، فبينما هو يغدق بالأموال والهدايا لأولادنا؛ فكل من أرادت فستانًا أحضر لها خمسة فساتين، وكل من طلب منه حقيبة أحضر لها “دستة” كاملة بجميع ألوانها…. إلخ؛ إذ قلتُ له : أريد الحج هذا العام يازوجي الحبيب؛ فكانت الطامة الكُبرى، لقد رفض بشدة قائلًا لي : “هو أنتِ عارفة مصاريف الحج بكام السنة دي دي تشتري بيت”؟!.
لم يكن بإمكاني تصديق ذلك، فأنا من تعلم كل شيء عنه.. حينما رآني أبكي، ذكَّرني ساخطًا بأن لي عشر قراريط كانوا إرثَا لي من أمي.. نعم أنا أملكهم، ولكن أخي الصغير فقير فأنا أجعله يقوم باستثمارهم منذ عدة سنوات، وكم تساوي تلك القراريط بجوار أفدنته؟!.. ظللتُ أبكي فترة تجاوزت اليومين، حتى بدأت استئناف أعمالي المنزلية.
وبينما انا أنظم الملابس بالدولاب إذا وجدتُ – كالعادة – بكل رف أو درج أموالًا لا حصر لها.. اموالًا من كثرتها لم يقم صاحبها بعدها، فلا أعلم كيف فكرت كذلك حينها، فقمت بأخذ ألفًين من الجنيهات وأخبأته عندي.
تكرر ذلك المشهد كل يوم وأنا أرتب الملابس أو الأوراق، أقوم بسحب “روزمة” من المال وهكذا سار الحال؛ حتى جمعت المبلغ المطلوب لقضاء مناسك الحج.. وحينما أتى زوجي بإحد الليالي أخبرته كذبًا بأن أخي اشترى مني الأرض وأعطاني المبلغ المطلوب لأذهب إلى بيت الله.
كم كانت فرحتي حينما قدم لي زوجي بالحج السياحي، وكان هو الآخر لديه عمل بالسعودية فأخبرني بأنه سيسافر معي على متن الطائرة!.. وكم كانت تعاستي كلما أتذكر أن تلك الأموال قمتُ باقتراضها بل بسرقتها من زوجي، ولكن ما كان يصبرني أن تلك الأموال تُعدُّ فتاتًا بالنسبة له؛ فهو لم يشعر بأى نقص بأمواله.
جاء اليوم المحدد للسفر، ودَّعتُ الجميع في فرحة عارمة، وركبنا الطائرة أنا وزوجي، وما إن هفت روائح الأرض المقدسة، وسمعت الشيخ بالطائرة يحدث مجموعة من الحجاج عن مناسك الحج؛ حتى استيقظ ضميري وشرعتُ أبكي، وازداد ضميري وخزًا في جسدي، حينما سمعت الشيخ يقول لأحد الحجاج : يا بُني تجنب كل ما فيه شبهة حرام في أموال الحج بخاصة، حتى يتقبل الله منك عبادتك وطاعتك ويستجيب لدعائك، وذكر له حديث رسول – الله صلى الله عليه وسلم – “أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة”؛ حتى صرخت وكدتُ أمزق ملابسي من ثقل الذنب.
هرع زوجي من هول ما ألمَّ بي، وقال ما بكِ.. ما بكِ؟!.. لم أتوانَ في أن أذكر له ما حدث وبالتفصيل.. لم أكن أتوقع رد فعله.. قام بتعنيفي وممارسة القهر اللفظي والبدني عليَّ، بل والأكثر أنه لم يعطني المال الذي اتفقنا عليه كي أحضر هدايا لأولادي قُبيل العودة إلى مصر، عذبني.. مرر تلك الأيام التي كنت أنتظرها طوال عمري لأسعد بها بجوار قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان من إحدى مظاهر عقابه لي، أن قام بإنزالي – من الحافلة التي كنا نستقلها بعد أن هبطت بنا الطائرة- قبل مبنى السكن بكيلومترات كثيرة جدا، وهو يعلم أن لدى مشكلات صحية في ظهري، فأثر عليَّ ذلك أيمَّا تأثير، ففي منتصف الطريق ارتميتُ أرضًا من شدة الألم؛ وما إن وطئت قدمي الفندق حتى انتقلتُ إلى المستشفى غير مستمتعة برحلة الحج بين أنيني وبكائي.
ذهب عني وتركني حزينة من هول ما ألمَّ بي، ظللتُ عدة ايام أصلي وأدعو حتى ساعدني أحباب الله واستطعتُ أن أذهب بمرافقتهم لأرى الكعبة.
حينما عدنا لبلدنا حاولتُ أن أتناسى ما حدث لي رغم أنه دائما كان يؤنبني الأيام القلائل الماضية وحتى الآن، كما أنه زاد من حزني وآلامي حينما أخبر والدته بما حدث منِّي.
مرت الأيام على نفس الوتيرة، إلى أن حدث ما توقعته يومًا فقد قام بالدخول في صفقة كبيرة خسِرَ على إثرها كل شيء، بل والأكثر من ذلك أنه بات مديونًا، فكان يعمل من أجل سداد ديونه كما ساءت نفسيته وقلَّ حماسه، وما تبقى لنا لا يكفي حتى الفُتات لنقتات منه.. فوجدته يومًا يقول لي ليس لنا الآن سوى العشرة قراريط التي تملكينها لنزرعها ونأكل منها أو نقوم بعملها مزرعة سمكية أو أي شيء يُدر لنا ما يسد أفواه أولادنا.
لا أدري إلَّا وأنا أقول له بكل اندفاع وغضب : لا.. وماذا عما فعلته بي؟.. أنسيت كل شيء؟.. إنَّني في حيرة من أمري وساءت نفسيتي.. ماذا أفعل بحق الله سيدتي؟!.
الحل
عزيزتي “و.ز” كان الله بالعون..
إنَّ صاحب المنح والعطايا الروحية بالحياة لا ينتظرُ مقابلًا، ولكن تلك المهنة ليست شاغرة بشكل دائم، إنَّها غالبًا محجوزة للطيبين أصحاب القلوب الرحيمة، لقد تجلَّى منحكِ وعطفكِ من خلال تربيتكِ لأولادكِ واحتواء زوجكِ وأهله، وظهرت طيبتكِ في قلبكِ الرقيق الذي لم يحتمل وطأة الذنب حينما سمعتِ كلمات الله تعالى؛ فانهرتِ وأخبرتِ زوجكِ على الفور بما صنعتِ كي تذهبي للحج.
عزيزتي، لا شك أنكِ قد أخطأتِ خطأً فادحًا أثناء مروركِ بالحياة، وهو سرقة بعض أموال من زوجكِ إن جاز التعبير، وحتى إن كان باعتقادكِ أن مال زوجكِ كأنه مالكِ..فهذا منحى فكري خاطئ لأنَّ الله سبحانه أوصى في دينه الحنيف بأن لكل من الرجل والمرأة الذمة المالية الخاصة، وعليه فكان ينبغي أن تنهي نفسك من الانصياع وراء همزات الشيطان، الذي حرضكِ على أن تذهبي إلى أشرف مكان بالعالم بأموال مسروقة.
إنَّ الرجل كان كريمًا معكِ طوال حياته ولم يحرمكِ أنتِ وأبنائكما من أي شيء من متاع الحياة، وكذلك كان سخيًّا ومعطاءً مع أمه وأخواته؛ إذن فهو من خير الناس وذلك مصداقًا لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم – “ خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” من سنن الترمذي.
عزيزتي.. نعم أخطأ زوجكِ، وهو يُعاقب الآن، فبالأمس القريب كان ملكًا على مُلكٍ ليس له عد، فقام بمصاحبة الشيطان وأخذ ينفق بلا حساب وتناسى أن المبذرين إخوان الشيطان، ولكن التمس لأخيك سبعين عذرًا، فربما كان رفضه لمغزى في رأسه ولا يعلمه أحد، كان عليكِ ألَّا تتمسكي بذلك الأمر طالما أن الله تعالى قد فرض الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وأين استطاعتكِ أنتِ، وما حيلتكِ في أموال مسروقة قد تورث سخط الله في عمل المقصود منه إرضاءه.. اصفحي عن زوجكِ مقابل خطأكِ يومًا في حقه.. وكذلك لأن العفو عند المقدرة..
لقد استقوى عليكِ زوجكِ في وقت ضعفكِ، فكوني أنتِ له وقت عَوَزِهِ، لقد أصبح عزيز قومٍ ذل؛ فكوني أنتِ كل قومه.. كوني له السند والظهر.. كوني له الدار والأنيس وصاحب اليسرى وقت الضيق، ولتكن أرضكِ هي فاتحة الخير والأمل المُحاكي للون الزرع الأخضر.. ازرعوا الأرض واقتاتوا منها وغدًا لن ينسَ زوجكِ صنيعك معه ووقوفكِ بجواره هو وأولاده..حولي تلك الأرض لعشرة قراريط من الحب،،
كوني له الحياة وقتما ضاقت به السبل. افتحي له طريقًا للأمل.. واغفري وابدئي من جديد وحاولي إسعاد نفسكِ ومن حولكِ.. وسأختم لكِ كلامي بقول بيتين من الشعر لبشار بن بُرد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا صديقك فلم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه مقارف ذنبٍ مرة ومجانبه.