محمد قدرى حلاوة يكتب: « شالله يا ست » (ج١)

بيان

(١)

لعل للنشأة والجذور عوامل روحية خفية نجهلها ولا يكاد يلمسها أحد.. لكنها رغم كل ذلك تشكلنا وتطبع ملامحنا بصفات وسمات هي كينونتنا وما نحن فعلا عليه.. هي الماء الأول السائغ الرقراق الذي أرتوينا به.. هي الروح السارية والوجدان الساكن وما هو مطوي في غور الأعماق.. البدايات.. أول البصر.. الحس.. الرائحة.. السمع.. بواكير القطوف والثمر.

ولدت في حي ” السيدة زينب” ذلك الحي الشعبي العتيق.. كان ” مقام الست” ليس بعيدا عن منزلنا..وكانت الحارة الضيقة في أيام المطر تتحول إلى بركة موحلة تتراكم فيها طبقات الطين وتجمعات الماء.. وكان القفز على قوالب الطوب للوصول لعرض الطريق مغامرة مثيرة وشائقة.. لا ضير من بعض الخسائر البسيطة من بقع تعلق بالحذاء والبنطال.. فعلي اية حال لن يلومك الأهل على الإهمال والنزق.. لم يزل هناك إحتمالات لأضرار أخرى قد تحدث في مباراة كرة القدم الساخنة التي نلعبها كل صباح في فناء المدرسة العريض، نعم كان بمدرستي فناء.. فناء عريض.

ما إن يحل موعد بداية الموسم الدراسي في شهر أكتوبر من كل عام حتى كنا نرتدي الملابس الشتوية الثقيلة.. كان الزمن صادقا حينها في كل شئ حتى في فصوله.. أحيانا ما كنا نتعرق ونحن نجري ونرتع فنخلع السترة الثقيلة.. نصاب بنزلات البرد.. ” أكيد قلعت الجاكيت” تصيح الوالدة.. كيف يستطيع الكبار معرفة كل شئ؟.. هل هي العصفورة الحمقاء التي تخبرهم بكل ما نفعل؟.. بالتأكيد هي.. سأحاول بعد ذلك التواري عنها أو قذفها ” بالنبلة” ملقنا إياها درسا لن تنساه.

كنا نقف أمام محل ” عم عبده” الجزار في بداية شارع” مراسينا ” أمام مدرسة ” محمد علي” في إنتظار قدوم ” عم عيد ” سائق سيارة الأجرة التي تقلنا إلى المدرسة بحي ” المنيل”.

يقف ” عم عبده” مرتديا ” البالطو” الأبيض بجسده السمين ووجهه المنتفخ الاوداج.. ويأخذ في ” تعليق” قطع اللحم الطازج على ” المجوز” فى مدخل المحل.. ويبدأ في تقطيع قطع أخرى وفصلها عن العظام ويدق عليها” بالساطور” بقوة.. بينما القطط واقفة متطلعة بشغف لما يلقيه لها من بقايا حول” الأورمة” الخشبية.. رغم رداؤه الأبيض الملطخ بالدم وهيئته المهيبة إلا أنه كان لطيفا حنونا يتركنا نلهو ونلعب من حوله.. ربما لطبعه الرقيق.. وقد يكون لصداقة تجمعنا ” بأحمد” إبنه وزميلنا في المدرسة.. المصاب بداء شلل الأطفال اللعين.

كان ” أحمد” طفلا رائعا دائم الإبتسامة.. يبدو نصفه الأعلى ضخما مثل أبيه.. إلا أن ساقيه رفيعتان يكاد البنطال يسقط من عليها لولا حزام عريض.

كان يتحرك بخفة ” بعكازيه” قابضا عليهم بقوة.. وقد سيج قدميه حذاء حديديا أحاط بها وسجنها حبيسة لا تتحرك.. يبدو ” أحمد” دائم الإعتماد على نفسه.. بشوشا راضيا.. عندما يتعثر أحيانا ينهض معتمدا على ساعديه القويين… لا يسمح لأحد بمساعدته.. سوي ” عم عيد” الذي يحمله ويجلسه بجواره في السيارة منطلقين نحو المدرسة.

لافتة معلقة على باب المحل.. كيلو ” الضاني” ١١٠” قروش.. كيلو ” الكندوز” ٩٥ قرش.. كيلو الكبدة ” ١٠٠” قرش.. كيلو البفتيك ” ١٠٠” قرش.. ” البتلو” حسب الطلب.. مع مرور الزمن كانت التعديلات والزيادة في الأسعار تبدو واضحة على تلك اللافتة كلما حلت ورقة ملصقة بيضاء بالسعر الجديد محل السعر القديم.

ورغم أن اللحوم المستوردة كانت متوفرة بالمجمعات الإستهلاكية.. إلا أنه في صيف عام ١٩٨٠ إتخذ الرئيس الراحل السادات قرارا بمنع الذبح في المجازر لمدة شهر للسيطرة على الأسعار المرتفعة للحوم.. كان يخشى من هبة غضب شعبي أخرى كالتي حدثت في يناير ١٩٧٧.. كان ” عم عبده” يجلس حينها أمام محله الخاوي من اللحوم يدخن الشيشة ويقوم بنفسه ببعض أعمال الطلاء والنظافة مستغلا فرصة التوقف السانحة.. بينما ” أحمد” يلعب ” البلي” أمامه بإبتسامته ومهارته المعهودة.

(٢)

في عام ١٩٧٧ _ على ما أتذكر _ تم إفتتاح مصنع ” لبان بم بم” تحت منزلنا مباشرة.. تجمهر الفقراء أمام باب المصنع وصاحبه يوزع ” أكياس” لحوم الضحية.. بينما دماء ” العجل” المذبوح قد أخذت تشق طريقها متسربة مع تيار الماء الدافق المندفع من ” خرطوم” ” يرش” به أحد عمال النظافة مرتديا حذاءا مطاطيا أسود كبير.. ظننتها فرصة ذهبية للحصول على صورة ” بم بم” الناقصة لإكمال ألبوم المسابقة والحصول على إحدى الجائزتين الثمينتين ” جهاز الأتاري” أو ” دراجة السباق”.. لكن يبدو أن الأمر لم يكن سهلا كما ظننت.
وأضطررت لشراء المزيد من ” اللبان” المطاطي القاس وتبديد مصروفي الشخصي دون أن يسعفني الحظ أبدا بالعثور على صورة” بم بم”.. وظل الألبوم ناقصا.. والجائزة مراوغة بعيدة.. على أية حال فقد أسعدني الحظ بالفوز في مسابقة مجلة ” ميكي” عن تأليف كلمات متقاطعة.. ونشر اسمي في المجلة.. كانت الجائزة مجموعة طوابع بدت أنها منتزعة من رسائل القراء بأختامها البادية عليها وقطع الورق الملتصقة بظهرها.. لكنها كانت على أية حال هدية فرحت بها.. ألا يكفي نشر اسمي في مجلتي الأثيرة؟.

نحو مائة متر أقطعها على الأقدام متحها لمكتبة ” دار المعارف” متجها لعالمي السري العجيب.. ألغاز ” المغامرين الخمسة” وقصص ” المكتبة الخضراء”.. شعرت بالخوف من قصة ” السلطان المسحور” عندما ظهر له الجني من المصباح.. كثيرا ما أرعبني عالم الجن و ” العفاريت” الغامض المثير.. طويت القصة حينها وأنتقلت لقراءة ” لغز الكوخ المحترق”.. أبحرت في عالم الساحر الراحل ” محمود سالم ” وحي” المعادي ” حيث” تختخ ” و ” محب” و” عاطف” و ” نوسة ” و” لوزة ” والكلب ” زنجر”.. لم أشعر بالميل نحو ألغاز ” الشياطين الـ١٣” ربما لأنني لم أجنح يوما نحو القصص المحلقة في الخيال والخوارق.. وظلت قصة” بينوكيو ” من سلسلة ” أولادنا” أيقونة قرأتها أكثر من مرة بكل شغف ولهفة وإعجاب.

حول شريط الترام كانت تنتشر ” أكشاك” بيع الكتب والمجلات القديمة.. أجلس بالساعات بحثا عن لغز لم أقرأه أو عددا قديما من مجلة ” ميكي” أو قصة لـ”تان تان” برسوم ” هيرجيه” المبدعة.

كنت ألمح أعدادا من الجرائد القديمة مغلفة ومعلقة بعناية.. تتحدث عن ” تأميم القناة” ” العدوان الثلاثي” ” وفاة عبد الناصر” توقفت طويلا أمام الصور المنشورة عن جنازته.. أليس هو ذلك الرجل الذي أنتشرت في عصره المعتقلات وساد التعذيب وتسبب في نكسة يونيو.. فلماذا يسير ورائه هذا العدد الغفير من البشر؟.. لم أهتم بالبحث عن إجابة وقتها.. وإن كنت قد شعرت بإنجذاب ما نحو صوره المعلقة في البيوت والحوانيت شاعرا بالإعجاب بملامحه السمراء الشامخة.

(٣)

أمام شريط الترام تقع سينما ” الأهلي”.. تذكرة “الصالة” بعشرة قروش.. كنت أحب الجلوس أمام الشاشة مباشرة حتى لا يحجب الرؤية عني أحد الكبار أو أنشغل بالضجيج الحادث.. لم أحب الجلوس في ” البلكون” أو أرى فيه ميزة فريدة.. كان العرض يبدأ ” بجريدة مصر الناطقة” يظهر حينها الرئيس الراحل “أنور السادات ” بقامته الممشوقة.. و تتوالى الأخبار.. ” قام الرئيس السادات”.. “صرح الرئيس السادات”.. ” زار الرئيس السادات”.. منذ دهر وأخبار الوطن مختزلة في شخص حاكمه.. يظهر دائما بطل المشهد ومحوره وموضوعه.. يصبح مرادفا للوطن شيئا فشيئا.. هو الوطن والوطن هو.

يأتي بعدها أفلام الكارتون.. ” توم” هذا القط الطيب المسكين الذي يعاني دوما من مقالب ” جيري” الفأر الذكي.. الحياة كلها محض مغامرة يفوز فيها الأذكياء غالبا.. أفلام الأرنب الطريف ” بيغز باني”.. حان وقت الإستراحة.. تضاء الأنوار وتكثر الحركة في قاعة السينما.. يمر البائع بين المقاعد وهو يدق” بالفتاحة” المعدنية صائحا برفق ” حاجة ساقعة.. شيبس”.. كانت أكياس ” الشيبسي” حينها طازجة معبأة في أكياس من ” النايلون” شهية المذاق.. أما المثلجات فتراوحت بين أنواعا محدودة ” سي كولا.. و كوكاكولا.. و سباتس”.

تطفئ الأنوار ويبدأ عرض الفيلم.. وأشرد في عالم من الخيال هائما شاخص البصر متحفز الحواس.. شاهدت فيها أفلاما كثيرة ” أبو ربيع “.. ” خلي بالك من زوزو”.. ” الكرنك “.. وكانت السينما تضج بالتصفيق حين نهاية العرض.

أعرج بعد نهاية العرض إلى محل” كشري الجمهورية” أو ” فول وفلافل الطاهرة” لتناول الطعام منفقا قروشا قليلة لا تتعدى الخمسة..

في الثامن عشر من يناير ١٩٧٧ كانت السينما تحترق.. بدت ألسن النيران المتصاعدة تلتهمها وتختفي وجوه الممثلين من على “الأفيش” مستعرة.. وظلت تشتعل وعربات المطافئ عاجزة عن الوصول إليها وسط جموع الجماهير الثائرة الغاضبة.

كنت أنظر إليها من بين فتحات وطيات ” الشباك” الخشبي.. شاعرا بالخوف والحزن.. بالتأكيد مقعدي الجلدي الممزق يستعر الآن.. الشاشة البيضاء تتفحم.. بائع ” الشيبشي ” الطازج.. هل كان موجودا لحظة الحريق؟.

مضت الجموع الثائرة تدفع عربات الترام بيدها العزلاء.. بدأت العربات تهتز وتميل إلى أن سقطت على جانبها.. أشعل المتظاهرين النار فيها.. ترى هل تمتد النيران لأكشاك الكتب القديمة وتنهار كل الأحلام هكذا جملة؟.

” دار المعارف” مغلقة الآن.. هناك عامل مطمئن في الأمر.. ( كنت قد شاهدت فاترينات عرض دار الهلال محطمة ومجلدات ميكي ممزقة على الأرض في طريق عودتي من المدرسة).. لمحت أحد عساكر الأمن المركزي يطارد رجلا كبيرا في السن – نوعا ما – ضربه بالعصا.. وسقط الرجل على الأرض على وجهه أمام مدخل ” فراشة نصار”.. وقف الجندي للحظات.. ترك العصا والدرع الواقي جانبا وجثا على ركبتيه.. ساعد الرجل على النهوض وأخذ يمسح وجهه بمنديل قماشي أخرجه من جيبه وهو يريت على كتفيه والهرج والمرج .. والكر والفر لا يتوقفان في الميدان.

بدت ليلة طويلة تأبى أن تمر.. لم أكن قادرا على الصمود والصحو أكثر من ذلك في برودة ليل يناير القارص.. وسرعان ما تدثرت بالغطاء وذهبت في نوم عميق.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى