د. عبدالغني الكندي يكتب: في علم السياسة إيران لم تبع حزب الله

بيان

تقديم:

فى تدوينة له على منصة “X” قدّم الكاتب والمفكر العربر الكبير عبد الرحمن الراشد لمقال د. عبد الغنى الكندى أستاذ مساعد، العلوم السياسية في جامعة الملك سعود، ورابط المقال، والذى يقدم فيه الكندى، تأصيلا نظريا وإيضاحا من خلال أدوات التحليل العلمي للرد على الشطحات المعرفية والخطاب الشعبوي السائد، فى الصراع الناشب فى المنطقة، والمعارك الأخيرة بين أذرع إيران وأبرزها ميليشيا حزب الله، وإسرائيل.

المقال منشور على موقع “العربية” ونعيد نشره فى التالى لأهميته:

نص المقال:

الكثير من التحليلات السياسية التي ظهرت بعد مقتل حسن نصر الله أشارت إلى أن إيران باعته كما باعت قبله قاسم سليماني، وهنيه، ورئيسي وغيره من القيادات السياسية والعسكرية.

وقد تنامى صحة هذا الافتراض الذي طرحه أكثر المحللين الإعلاميين والعسكريين بعد غزل الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في الأمم المتحدة لأمريكا وادعائه بأنهم إخوة، إضافة إلى العرض الإيراني بالتوقف عن سباق التسلح في حال قبلت إسرائيل نفس الشرط.

وفي حقيقة الأمر، الادعاء بأن إيران باعت حزب الله وغيره بعيد كل البعد عن القواعد العلمية للتحليل المعمول به في تخصصات العلوم السياسية، وهو زعم أقرب للأطروحات الشعبوية والهراء السياسي.

ولأن معظم من يتبنى هذا التحليل هم من رواد نظريات المؤامرة الذين يميلون إلى تفسير الأطروحة ونقيضها بنفس المتغير السببي، واسقاطها بشكل اعتباطي على كل ظاهرة سياسية بسبب افتقارهم للأدوات والنظريات العلمية في التحليل السياسي، فكان من المنطقي الانزلاق إلى التحليلات العشوائية وغير الدقيقة.

والجزء الأكبر من انتشار شطحات نظريات المؤامرة والتخبطات المعرفية في التحليل السياسي يعود إلى ضعف الاهتمام الحقيقي بتخصصات العلوم السياسية، والاكتفاء بدلاً من ذلك بخريجي التخصصات الأخرى لتشريح الظواهر السياسية، أو تصدير المؤدلجين من المتخصصين بعلم السياسة.

فالبديهيات المنطقية الأساسية التي يدرسها طالب العلوم السياسية في مراحله التعليمية الأولى تمكنه من دحض وتكذيب الافتراض بأن إيران باعت ميلشياتها وقطعت ذيولها بالمنطقة، فما يدرسه الطالب في هذه المرحلة هو أن الدولة، كالكائنات البشرية، بطبيعتها كيان عقلاني هدفها الوحيد هو القدرة على البقاء.

والوسيلة الحصرية التي توظفها الدولة في الحفاظ على غريزة بقائها واستمراريتها هي الأنانية التي بواسطتها تلبي حاجاتها وتضع رغباتها فوق رغبات الأخرين. ومن هنا يصبح الهاجس الأساسي للدول هو الاهتمام حصرًا بتعظيم موارد قوتها، وتجنب خسارة أي مصدر من مصادر هذه القوة، لأن الحفاظ على القوة باختصار هو جوهر التحليل السياسي وبغير ذلك يكون التحليل هراء وسفسطة فارغة.

وهذا الحساب العقلاني لتكلفة الأرباح والخسائر للقوة تنطبق على كل دول العالم عبر التاريخ وهي ما تشكل قواعد اللعبة السياسية بغض النظر عن عقيدة الدولة السياسية سواء كانت شيوعية، أو رأسمالية، أو ليبرالية، أو قومية، أو إسلامية سنية، أو شيعية. وهو نفس الحال الذي ينطبق على إيران وغيرها من كل دول العالم، ومن يخرج عن هذا النهج يصبح خارج اللعبة السياسية، بل وخارج التاريخ أيضاً.

ومن هذا المنطلق النظري فإيران كأي نظام سياسي أخر تسعى بعقلانية إلى تضخيم مصادر قوتها وتعزيز شرعيتها السياسية وتجنب المهددات والمخاطر التي تستلب منها قوتها.

وبالتالي فإن التحليل وفق نظريات المؤامرة التي تدعي بأن إيران قبلت باختراق سيادتها من خلال التواطؤ باغتيال قادتها السياسيين الكبار، وعلمائها، وحلفائها بالمنطقة ادعاء مثير للسخرية، لأن قبول إيران أو غيرها من الدول بهذه الاختراقات الأمنية وبشكل علني أمام كل العالم سيقوض من شرعية حكومة إيران، وبقدرتها على حماية سيادتها داخلياً، كما يهز ثقة عملائها وحلفائها بإمكانياتها على حمايتهم والدفاع عنهم حاضراً ومستقبلاً، واظهارها بالتالي في صورة الدولة الهشة والضعيفة التي لا تمتلك الحد الأدنى من قدرات الردع والحماية والقوة مما يعني رفع تكلفة الخسائر على نفسها.

والواقع بأن الاختراقات الأمنية الإسرائيلية بصورها المتنوعة لإيران الذي يثبت عجزها وضعفها الداخلي ليست وليدة اللحظة، فقد سبق لإسرائيل أن قامت بهجوم سيبراني لقطع كهرباء مفاعل نطنز النووي، واستهداف نظام حركة الملاحة البحرية في ميناء رجائي، ومحاولات سيبرانية أخرى لتدمير البنية التحتية للاتصالات، وزرع فايروسات في الكمبيوترات الحكومية، واغتيال خمس علماء متخصصون بالفيزياء النووية بطهران خلال عامي 2010-2012، واغتيال رأس البرنامج النووي فخري زاده في طهران كذلك في 2020 بطريقة احترافية وبواسطة الذكاء الصناعي، واغتيال قاسم سليماني بالعراق، أعقبه اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وأخيراً لا يستبعد أيضاً دور إسرائيل في اغتيال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بواسطة البيجر كما صرح بذلك أحد أعضاء البرلمان الإيراني.

ومن هنا يصبح من السذاجة المفرطة الادعاء المتهافت والمتناقض بأن إيران (تآمرت) مع إسرائيل لقتل رئيسها وعلمائها وقادة ميلشياتها حتى تظهر بصورة الدولة الهشة والضعيفة العاجزة عن حماية نفسها، والدفاع عن حلفائها، والاستسلام المهين أمام أعدائها، والقبول بتدمير بنيتها التحتية في العاصمة الإيرانية نفسها.

وطبعاً لو اغتيل خامنئي أيضًا المتهم الرئيسي بالتآمر مع إسرائيل، لن يجد حرجاً صاحب نظرية المؤامرة بتوظيف نفس المتغير السببي لتفسير الأطروحة ونقيضها.

وفي حقيقة الأمر فإن التاريخ يثبت بأن سياسة الفرس ومنذ ما قبل الميلاد كانت ترتكز على مراكمة قوتها الداخلية من خلال تشغيل دول وظيفية وقوى خارجية تحميها من الخارج منذ دولة المناذرة وحتى الإسكندرية بمصر حتى تتجنب احتمالات الدخول بحرب شاملة تقضي على كيانها، وهو نفس النهج السياسي الذي تتبعه الحكومة الإيرانية المعاصرة، فالمصدر الحقيقي لقوة إيران هي خارجية وليست داخلية وذلك من خلال توظيف ذيولها بالخارج لتحقيق أهدافها الاستراتيجية حتى تتجنب قطع الرأس الإيراني بالداخل.

وهذا يعني بأن إيران صنعت حزب الله، وأنصار الله الحوثيين، والحشد الشعبي، والفصائل الشيعية بسوريا، ودعمت حماس، لتحقيق الأهداف الإيرانية باستهداف أعدائها وحتى تكون هذه الميلشيات مصدات حماية دفاعية تمنعها من الدخول في حرب شاملة مع أعدائها أو ضد إسرائيل التي سيلحقها تدخل أمريكي ودولي سيقضي عليها كلياً.

ولذلك وضعت حكومة طهران قواعد الاشتباك التي توظف فيها هذه الميلشيات لحمايتها وليس العكس.

فالرأس الإيراني على استعداد للتخلي عن كل ذيوله في حال وجد أن التكلفة السياسية والعسكرية ستكون باهظة بالدخول في حرب شاملة قد تؤدي للقضاء على نظامه السياسي. وبمعنى أكثر دقة، فمن منطلق غريزة البقاء فالرأس الإيراني سيقبل بقطع ذيوله بالمنطقة والتضحية بها طالما سيبقى على قيد الحياة بتجنبه للحرب الكلية.

وهذا الأمر مسوغ ومبرر في قواعد اللعبة السياسية لأن الدول بطبيعتها ليست ايثارية ولن تضحي بمقدراتها الذاتية من أجل حماية وبقاء الآخرين.

وهذا التحليل يقودنا إلى الاستنتاج بأن مصدر القوة الإيرانية كانت بالخارج وليس بالداخل، بل واقع الحال يؤكد على أن إيران، كنظام صدام حسين سابقاً، هش من الداخل ومجرد ظاهرة صوتية وشعبوية، والرهان بالدخول بأي حرب شاملة سيعني تدمير حكومة الملالي والقضاء عليها كلياً كما كان الحال مع نظام البعث العراقي السابق.

فالجبهة الداخلية الإيرانية غير متماسكة ومفككة بسبب الشعور العام بالحرمان الاقتصادي والاجتماعي عند الأقليات العرقية والطائفية والجهوية، وانتشار هذا الشعور بين فئات عريضة من الشباب والنساء والطلاب الذين يغلب عليهم الانتماء إلى عصر الحداثة المعادي لأفكار الأقلية الدينية الحاكمة.

ولولا القبضة العسكرية الحديدية من الحرس الثوري العقائدي وتوابعه من الجماعات الدينية لانهار النظام الإيراني من الداخل سريعاً بفعل الانتفاضات والتمردات الشعبية المتكررة. ولذلك كانت مساندة الميلشيات العسكرية وأهمها على الإطلاق دعم حزب الله (صفوة الميلشيات الإيرانية)، ورفع شعارات الثورة ونصرة القضية الفلسطينية مجرد لافتات لحجب حقيقة ضعف جبهتها الداخلية ولحماية نفسها من التهديدات الخارجية وأهمها التهديد الإسرائيلي.

من جهة أخرى، أدركت اسرائيل بشكل جيد هذا الضعف الاستراتيجي الداخلي للحكومة الإيرانية وبأن قوتها الحقيقية في ذيولها وليس في الرأس وبأنها ملتزمة بسقف قواعد الاشتباك الذي لا يفضي إلى تدميرها بحرب شاملة كما حدث مع صدام حسين.

ومنذ انكشاف إسرائيل في حرب 2006 أمام صواريخ حزب الله وهي تعمل جاهدة على تطوير مقدرات قوتها التكنولوجية والعلمية في بناء منظومة تسليح دفاعية وهجومية وتحسين قدراتها الاستخباراتية فضلاً على الدعم الأمريكي لها. فإسرائيل تٌعدُ من أقوى دول العالم بتكنولوجيا التجسس والحروب الإلكترونية، وتتصدر دول العالم من حيث ميزانية البحث العلمي وتتجاوز أمريكا والدول الغربية كلها، بل إن ميزانيتها للبحث العلمي تعادل ميزانية الدول العربية كلها مجتمعة. وحسب مركز سيتا فإسرائيل تنفق ما مقداره 4.7% من انتاجها القومي على البحث العلمي، وهذا يمثل أعلى نسبة إنفاق في العالم، بينما تنفق الدول العربية ما مقداره 0.2%.

وعندما هددَّ نتنياهو إيران من على منصة الأمم المتحدة بأنها قادرة على الوصول إلى أي مكان بالداخل الإيراني، فهو يعي ما كان يقوله لأنه بكل بساطة على إدراك كامل بضعف البنية العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية لإيران وبأنها عاجزة على الرد الإسرائيلي الذي يهدد بقاء النظام الإيراني واستمراريته.

وأثبتت الأدلة التجريبية بأن إسرائيل تتفوق بشكل كاسح على إيران في كل أنواع القوة الشاملة وبأن إيران بسبب العقوبات المفروضة عليها مازالت تعيش على أسلحة وترسانة تكنولوجية قديمة ومهجورة منذ ثمانينات القرن المنصرم كمروحية الرئيس رئيسي المتهالكة.

وهذا التهديد الإسرائيلي الصارم تأكد عند القيادة الإيرانية بعد استهدافها لقادة الحرس الثوري الإيراني داخل لبنان، وتدمير معظم منصات إطلاق الصواريخ النوعية لحزب الله، وتعطيل قدراته الصاروخية، علاوة على حرب البيجرات والأجهزة التكنولوجية، والاستهداف الانتقائي والاحترافي لقيادات الحزب، واغتيال رئيسي وهنيه بالداخل الإيراني، فتيقنت القيادة الإيرانية حينها بأن إسرائيل المتفوقة عليها عسكرياً قادرة وجادة على الاستمرار بمشروعها الأمني لتحقيق كل أهدافها الاستراتيجية.

وبالتالي لم يكن هناك خيار أمام إيران العاجزة عن الرد العسكري الحقيقي إلا القيام بلعبة توزيع الأدوار السياسية المعتادة عندما يشتد الخناق عليها وذلك من خلال انتخاب “رئيس إصلاحي” يقدم خطاباً مرناً وناعماً لأمريكا بوصفها القوة الوحيدة القادرة على لجم إسرائيل من استهداف إيران ولأن إدارة البيت الأبيض والدول الأوروبية تتجنب فعلاً توسيع نطاق الحرب لدخول المنطقة في حرب إقليمية تكون تكلفتها الاقتصادية والاستراتيجية باهظة ومدمرة على المنطقة وعلى كل دول العالم.

ولو كانت هناك صفقة كما يدعي أصحاب نظرية المؤامرة بين أمريكا وإسرائيل وإيران بتصفية حسن نصر الله أو إسماعيل هنية ورئيسي، وإظهار إيران بصورة الدولة العاجزة عن حماية رئيسها وعملائها وهز ثقة الداخل والخارج بقدراتها العسكرية والأمنية، لما شجعت إيران الحوثيين على استهداف إسرائيل عندما بدأت حربها المعلنة ضد حزب الله، ودعمها لميلشيات سورية وعراقية بالتوجه نحو لبنان، ومساندتها صراحة للقيادة التي ستخلف حسن نصر الله في رئاسة حزب الله.

وحتى زعم مروجو نظرية المؤامرة بأن هناك صفقة إيرانية بالتضحية بميلشياتها من أجل الاعتراف بها كقوة نووية هو ادعاء مرسل وهراء سياسي، فلا أمريكا ولا إسرائيل أو دول المنطقة ستقبل بإيران قوة نووية.

خلاصة القول، إيران لم تبع حزب الله، ولكن إيران أضعف من أن تحمي نفسها فضلاً عن حماية عملائها وميلشياتها بالخارج. والأهم من كل ذلك قناعتها بأن دخولها في حرب شاملة سيفضي إلى تدميرها والقضاء عليها لأن أمريكا وغيرها من الدول الكبرى ستدخل الحرب حتماً لنصرة إسرائيل.

ومن منطلق أن من مقتضيات العقلانية السياسية أن تحافظ إيران كغيرها من الدول على بقائها واستمرارها وبالتالي تجنب الدخول في معارك كبرى معروف سلفاً نتائجها المدمرة على كيانها، فكان على إيران العاجزة عسكريًا واقتصاديًا أن تتوقف عن الرد الذي سيفضي إلى حرب كلية مدمرة، والقبول بدلًا عن ذلك بقواعد اشتباك محدودة إما من خلال ميلشياتها أو عبر ضربات عسكرية مباشرة متواضعة في التأثير والفاعلية.

وهذا التوقف ليس نتيجة لصفقة سياسية ببيع ذيولها، كما يتوهم رواد نظرية المؤامرة. وإنما هي نتيجة حتمية لتطور التقنية الإسرائيلية في الحرب والبحث العلمي وتقدم أدواتها الاستخباراتية، والعجز الإيراني الواضح في الحفاظ على عملائها والرد العسكري المناسب على جبروت التقنية الإسرائيلية بسبب تخلفها العلمي والتقني في كل مؤشرات القوة الشاملة، وارتكاز مصادر قوتها على ميلشيات الخارج وليس على قوة الداخل وتماسك جبهتها المحلية. وهو الأمر الذي لا يشجعها على الدخول في حرب غير متكافئة سيقضي عليها كما كان الحال مع جارها البعثي الذي عاش على الشعارات الحنجورية لنصرة فلسطين والقومية العربية وأصبح خارج قواعد اللعبة السياسية، بل خارج التاريخ كله.

……………………………………………………………………………………………

الرابط الأصلى للمقال: http://ara.tv/cb975

اقرأ أيضا:

زر الذهاب إلى الأعلى