محمد قدرى حلاوة يكتب: « اللمبة النيون »

بيان

(١)

كان ” كشك” عم حامد يقع أسفل منزلنا مباشرة.. يتحتم المرور عليه كل يوم سواء في الطريق إلى المدرسة أو في الطريق لمقابلة الأصدقاء في الأجازة الصيفية.. وكان ” عم حامد” فى السبعين من عمره.. وجهه أسمر اللون رسم عليه الزمن تعديات تجاعيده وتغضناته.. وإن لم ينجح في إخفاء ضحكته الصادحة دائما.. أعتاد أن يرتدي الجلباب ويعتمر قبعة كان يتفائل بها وبرر لنا ذلك بقوله “أصل أنا جايبها من الحجاز” .

ضيق عيناه لم يخف بصره الثاقب.. وكان رغم سنه المتقدم يدخن بشراهة ويسب بأبشع الألفاظ حين يغضب.. ولا يترك فرضا إلا وأداه جماعة في المسجد خلف ” الكشك” بعد أن يأتمن أحدنا على ماله وبضاعته.

رغم فارق العمر الشاسع وجدنا في ” عم حامد” صديقا لطيف المعشر.. كنا نجلس معه نتبادل أطراف الحديث.. نتحدث عن كل شئ وأي شئ.. ولا مانع أن يتضمن الحديث أقذع الألفاظ بحثا عن الضحك والسخرية.. ومع مرور الوقت صار كشك ” عم حامد” مكان التجمع للأصدقاء استعدادا للذهاب لنزهاتنا الليلية.

ووجدنا ميزة كبيرة في” عم حامد” فقد كان يمكن لنا أن نبتاع منه ما نريد من مثلجات وحلوي وعصائر وسجائر “شكك “( بالأجل) إلى حين ميسرة والحساب يجمع.. وكنا نساعده في “رص” زجاجات المثلجات في الثلاجة.. وحمل الصناديق وترتيبها.. وأحيانا ما كان يطلب َمنا الوقوف في طابور فرع شركة السجائر لكي نحصل له على أكبر كمية من سجائر “السوبر” حين حدثت أزمة في قلة المطروح منها مقابل زيادة الطلب عليها وصارت لها سوقا سوداء والتي كان ” عم حامد ” جزءا منها ويربح ” قرشين” زيادة عن السعر المحدد للبيع.

صار “عم حامد” صديقا حقيقيا لنا.. وتلاشت فوارق السن واختلاف الأجيال.. و أصبحنا نبوح له بأسرارنا.. وهو يبث لنا شكواه من وحدته بعد وفاة زوجته رفيقة مشواره وعمره.

كان دائما ما يحكي لنا عن أيام الإنجليز والملك وعبد الناصر والسويس التي أتى منها مهجرا بعد نكسة ١٩٦٧.. و كثيرا ما عبر لنا عن أمله بالرجوع لها يوما.. يحدثنا عن شوارعها وناسها وأسماكها الشهية وكان يقول لنا ” هوه السمك اللي أنتوا بتاكلوه ده سمك” ولا أنسى جملته الأثيرة حين قال لي ” السوايسة جدعان قوي ورجالة قوي بس أوعى تضحك عليهم أو تخونهم”.. ووجدت عبارته منطبقة بالفعل على كل من عرفتهم من أبناء المدينة الباسلة.

(٢)

في يوم سئ الحظ كنا نتبادل لعب الكرة في الصباح الباكر أمام “الكشك” في انتظار قدوم باقي الأصدقاء للذهاب للعب في ” الأرض الخضراء” (مساحة كبيرة من النجيلة يأتي لها الجميع من كل الأنحاء للعب كرة القدم والتريض مكان نادي الزهور حاليا) .. ثم حدث مالا يحمد عقباه عندما صوبت كرة قوية أصطدمت ” باللمبة النيون” أمام “الكشك” وحطمتها شظايا.. وما هي إلا بضعة دقائق حتى أتى ” عم حامد” لفتح” الكشك” وأصابته الصدمة حين وجد قطع الزجاج المتفتتة ” للمبة النيون” وسرعان ما اتهم أحد أصدقائنا بالجرم.. والذي كان ” عم حامد” يكرهه بشدة ويرفض أن يشكك له بضاعته ويقول لنا دائما” الواد ده مبحبوش.. الواد ده مش جدع”.

وانطلقنا نعدو بأقصى سرعة عندما بدأ” عم حامد” يطلق قذائفه من الألفاظ الفاحشة والتهديد والوعيد.

ذهبنا إلى لعب الكرة ونسينا الأمر كله حتى حين.. إلى أن أتي الليل و ذهبنا كالمعتاد إلى “كشك” ” عم حامد” الذي قابلنا بوجه متجهم ولغة خشنة رافضا جلوسنا أو أن يشكك لنا شيئا من بضاعته.

وزاد الأمر سوءا عندما اعترفت له بأنني السبب في تحطم ” اللمبة”.. فقد اتهمنا يومها بمحاولة خديعته والتستر على صاحبنا الذي يكرهه… ولم يستجب لكل محاولات الاسترضاء التي بذلناها.

وانصرفنا في حالة حزن آسفين على ذهاب ريح تلك العلاقة الفريدة التي جمعتنا به وذوبت فوارق السن.. وكان علينا أن نعتاد فقدان صحبته ونوادره ولسانه اللاذع وبضاعته المباعة بالأجل بالطبع.

حدثت وساطة من أحد الشباب الأكبر منا سنا.. وحكي له ” عم حامد” عن سبب حزنه منا.. أننا خدعناه و أخفينا عنه الحقيقة وتسترنا على صديقنا الذي يمقته.. وتدّخل أخرون وتم الوصول إلى حل وسط كي يرضى بالصلح.. وهو ألا يرى صاحبنا هذا معنا مرة أخرى.. وأن يدفع ثمن ” اللمبة النيون” التي حطمها.

ولم نجد مفرا من الخضوع لشروط الصلح وجمعنا ثمن “اللمبة النيون” واعطيناه” لعم حامد”.. واتفقنا مع صاحبنا المتهم ظلما بألا يظهر معنا مجددا أمام ” عم حامد” حتى لا ننقض شروط الصلح.. على أن نبتاع له ما يريد من بضاعة بالأجل شريطة أن يسدد ثمنها.

وتم الصلح وعادت المياه إلى مجاريها وعدنا نجلس مع ” عم حامد” من جديد ونضحك ونطلق الألفاظ الفاحشة ونحصل على ما نريد من بضائع شكك.. وأستعدنا الرفقة والصحبة.

مر نحو شهرين.. أخبرنا ” عم حامد ” أنه مسافر لمدة أسبوع.. ولأول مرة بدا غامضا ولا يستطرد في الحديث ولا حتى يفصح لنا عن وجهته.

وعندما عاد من أجازته تلك وجدناه يرتدي عباءة عربية مطرزة فوق الجلباب وقد صبغ شاربه وحاجبيه وبدأ لنا مظهره غريبا عما أعتادته أعيننا.. ثم أطلق ” عم حامد” علينا قنبلته عندما أخبرنا بأنه قد تزوج.. وبينما نحن في حالة من الدهشة والعجب كان ينظر لنفسه في شقفة مرآة صدئة يحتفظ بها في الكشك ووجه حديثه إلينا ضاحكا: “شايف يا ولا أنت وهوه أنا أصبي منكم”.

ومع مرور الأيام والشهور بدأت سمات ” عم حامد” وطباعه تتغير شيئا فشيئا.. كثر صمته وقلت أحاديثه.. واختفت ابتسامته.. وبدأت أعراض المرض تسري في جسده وتبدل خصاله وتعبث بملامحه.. ولم يكن يئن أو يشكو رغم نوبات السعال العنيف التي كادت تفجر صدره، وأصبح يغيب يوما أو يومين مغلقا ” الكشك” وصار ينسى ولا يتذكر الوجوه ولا الأحداث.. ويهذي أحيانا كانت جملته الوحيدة المفهومة المفسرة عندما كان ينظر إلينا قائلا : “أنا عايز أرجع السويس”.

اختفي ” عم حامد” بضعة أيام .. حتى أتانا خبر وفاته.. لم يستطع أن يقاوم المرض اللعين.. كان “عم حامد” محبا للحياة ناهلا منها آملا فيها.. لكنها لم تمهله وقتا أكثر ولم تبادله حبا بحب، كعادتها عندما تفلت يد كل من يتشبث بها.. ولم تمهلنا نحن أيضا حينا أخر نستمتع فيه بحديثه ونكاته وصحبته الفريدة.. و بضاعته “الشكك”.. وأفتقدنا صديقا حقيقيا.

أمر حتى اليوم من أمام “كشك” ” عم حامد ” الذي وافاه الأجل منذ ثلاثون عاما.. وأجد نفس قوالب الحجارة والصناديق الفارغة التي كنا نجلس عليها خاوية.. وأتسائل: “أين ذهبت أصداء الحكايات والضحكات والأحاديث؟.. هذا الفضاء الفسيح يحتوي أعمارنا وشاهدا عليها.. لكنه منكر.. خائن.. يطوي أيامنا ويسرقها ويصمت عن قول الحقيقة.

وعندما ألتقي صاحبي المتهم ظلما أقول له دائما: “فاكر اللمبة النيون؟.. فيجيبني بصوت حزين: “هوه عم حامد كان بيكرهني ليه.. هوه صحيح أنا مش جدع؟.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى