الصهيونية العالمية بين أجندة اليهودية الجديدة واليهودية الإصلاحية (الجزء الأول)

كتب: أشرف التهامي

الحركة الإصلاحية اليهودية، أصل نشأتها في القرن الثامن عشر الميلادي. يقول عبد الوهاب المسيري في مقال له: «يوجد إذاً جانبان في اليهودية: واحد إنساني يقبل الآخر ويحاول التعايش معه وهو جانب أقل ما يوصف به أنه كان هامشياً، وجانب آخر غير إنساني عدواني يرفض الآخر تماماً.
ولكن في القرن التاسع عشر ظهرت حركة الاستنارة اليهودية واليهودية الإصلاحية التي أكدت الجانب الإنساني وعمقته وحذفت من الصلوات اليهودية أية إشارات لإعادة بناء الهيكل والعودة إلى الأرض المقدسة.

تاريخ الحركة وأماكن وجودها

يقول الباحث د. لطف الله حيدر: شهد القرن الثامن عشر اتجاهين دينيين رئيسيين، متميزين ومتنافسين، في حياة اليهود الاجتماعية والفكرية، وقد ارتبط الاتجاه الأول ارتباطاً عضوياً باسم مؤسسه مندلسون (1729-1786) ودعا إلى التخلي عن العقائد اليهودية والطقوس الدينية القديمة.
وقاد أنصار هذا الاتجاه حملة في سبيل التنوير (هاسكالاه) بينما كان الاتجاه الثاني يجسد النزعة نحو التمسك الصارم بحرفية التعاليم اليهودية التوراتية القديمة وشعائرها الجامدة والحفاظ على انعزالية اليهود ضمن (الجيتو) بانتظار المسيح المنقذ الذي سيقود اليهود إلى أرض الميعاد في فلسطين، وقد سمي الاتجاه الأول (التيار الغربي) نظراً لانتشاره الواسع بين يهود غرب أوروبا، وأطلق على الاتجاه الثاني اسم (التيار الشرقي) (نسبة إلى شطر أوروبا الشرقي)
وهذه الحركة نبتت في ألمانيا حيث مولد مندلسون، وأما مكان وجودهم الفاعل وانتشارهم المذهل فهو في الولايات المتحدة الأمريكية ويقدر عددهم بمليونين، وفيها 700 معبد لهم، كما أن لهم مؤسسات علمية واجتماعية من أهمها:
«كلية الاتحاد العبري» .
«المعهد اليهودي للدراسات الدينية» .
«اتحاد المجتمعات الكنسية العبرية الأمريكية» .
«المؤتمر المركزي للحاخامات اليهود»,
ولهم أيضا انتشار كبير في إنجلترا. وكان أنصارها يتزايدون باستمرار قبل أن تبدأ الاصطدام بالعقبات والصعاب.
أكبر الفرق الدينية اليهودية في الغرب.
واليهودية الإصلاحية والمحافظة هما أكبر الفرق الدينية اليهودية في الغرب. يقول د. المسيري: (وتوجد معابد إصلاحية في حوالي 29 دولة تابعة للاتحاد العالمي لليهودية التقدمية، ويبلغ عدد أتباع الحركة حوالي 1.25 مليون. لكن الولايات المتحدة لا تزال المركز الأساسي الذي يضم معظم أعضاء هذه الفرقة. وتوجد 848 إبراشية يهود إصلاحية في الولايات المتحدة، ويشكل الإصلاحيون 30% من كل يهود أمريكا المنتمين إلى إحدى الفرق اليهودية (مقابل 33% محافظين و9% و26% لا علاقة بهم أي فرقة دينية أرثوذكس) ومع هذا تذكر أحد المراجع أن عدد اليهود الإصلاحيين مليون و300 ألف… وقد اعترفت روسيا باليهودية الإصلاحية باعتبارها مذهباً يهودياً. وبالفعل، توجد جماعة يهودية إصلاحية الآن لها مقر في موسكو. ويمكن أن نتوقع انتشار اليهودية الإصلاحية لأنها صيغة مخففة سهلة من العقيدة اليهودية تناسب تماماً يهود روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء ممن يودون التمسك بيهوديتهم وإظهارها والإعلان عنها حتى يتسنى لهم الهجرة إلى إســرائيل. ولكنهم، كباحثين عن اللذة، لا يريدون في الوقــت نفسه أن يدفعوا أي ثمـن عن طـريق إرجاء المتعــة أو كبـح ذواتهم أو إقامة الشعائر. واليهودية الإصلاحية تحقق لهم كل هذا، فهي تتكيف بسرعة مع روح العصر، وكل عصر).

موسى مندلسون المؤسس وأبرز الشخصيات

تأسست الحركة الإصلاحية على يد موسى مندلسون (بن مناحم)، الذي ولد في ديسوي بألمانيا في 6 سبتمبر سنة 1729, ومات في برلين في 4 يناير 1786.
وقد أشاع العلوم العصرية بين اليهود، وكان قد جمع بين علوم الدين اليهودي وفلسفته ومعارف القرن الثامن عشر، وكان شعاره: (الاستجابة للعادات وأعراف المجتمع العصرية، مع المحافظة والإخلاص لدين الآباء) ونمت من خلال تفاعل الثقافة اليهودية مع التجربة الأمريكية.
ولقد انبرى مندلسون كما يقول بعض الكتاب بتأثير من آراء وفلسفة لابينتز (1246-1716) التي آمن بها، إلى بيان طبيعة الصلة بين الوحي والفلسفة، فأعاد صياغة العقيدة اليهودية رافضا الاعتراف بأي ركن من أركانها الثابتة والمتوارثة، مما لا يمكن للعقل البشري بنوره الفطري أن يهتدي إليه أو يتثبت من صحته، فأعلن صراحة في كتابه «القدس» قوله: «أنا لا أقر بمبدأ» خالد«إلا ما أمكن تأسيسه أو التحقق من صدقه بالعقل»، فهو قد توج العقل على عرش الدين، وهو يختلف جوهريا عن العقل الذي آمن به موسى بن ميمون وغيره من علماء العقيدة اليهودية، ممن اعتبروا العقل رديفا للدين وتابعا له.
وكان من الخطوات التي انتهجها مندلسون في سبيل جعل أتباعه مقبولين من قبل الأجانب غير اليهود ترجمته للأسفار الخمسة (البنتاتوخ) إلى الألمانية، ليدعو اليهود الألمان إلى استبدال لغتهم بلغة الألمان القومية، وأتبع هذه الترجمة برعايته لتفسير التلمود بالعبرية حاول إعادة تأويل النصوص الدينية في ضوء معطيات الفكر الحديث.
عاش مندلسون ليشهد الثمرة الأولى لجهوده التربوية وذلك بافتتاح أول مدرسة يهودية حرة “frei schule” في برلين عام 1778 والتي كانت أول مدرسة يهودية حديثة جمعت في برامجها التعليمية بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، والتي كانت تدرس جميعا باللغة الألمانية

أبرز الشخصيات في الحركة

لقد انتصرت لدعوة مندلسون عصبة من الرواد المخلصين ممن أيدوا منهجه، وأطلقوا على أنفسهم اسم المنورين، وتعاهدوا على إصدار دورية أدبية عنوانها «الجامع» استمر إصدارها لفترات منقطعة ما بين (1784-1811) باللغة العبرية معرضين عن لغة الياديش.
1- وكان من أشهر أنصار مندلسون «نفتالي هرتس ويسلي» (1725-1805) الشاعر الذائع الصيت والشهرة، وكان من أكثرهم إخلاصا وحماسا لدعوته، دعا إلى الانصهار في ثقافة العصر، وقام في كتابه المعروف «كلمات عن السلام والحقيقة» بدعوة يهود النمسا والمجر إلى الاستجابة المخلصة لنداء الإمبراطور جوزيف الثاني الذي دعا إلى استخدام اللغة الألمانية وإنشاء المدارس الحديثة لتعليم العلوم العصرية ذات الصلة بروح العصر ومطالبه.
2- ومن زعماء الحركة الإصلاحية «أبراهام جايجر – جايكر-» (1810-1874)«زعيم الجناح المعتدل» الذي يشار إليه عادة بلفظ «التقدمي» وهو من أشهر الوعاظ والخطباء لهم، والذي تولى هذا المنصب في مدينة فيزبادن، وإليه يرجع الفضل أيضا في نشر صحيفة ناطقة بالاتجاهات الفكرية لهذه الطائفة ابتدءا من سنة 1832، واسمها «الصحيفة العلمية للاهوت اليهودي»، وفي سنة 1838 انتخبته طائفته حاخاما أكبر لها في مدينة برسلو، منافسا لحاخامها القديم «تيتكين»، وقد أحدث هذا الانتخاب خلافا حادا في زمانه في تلك المدينة.
ومن جهود جايجر في هذا أنه طالب بالتخلي عن فكرة (شعب الله المختار) كلياً، واعتبر أن تلك الفكرة عمقت عزلة اليهود.
وقد دعا جايجر إلى ضرورة ممارسة ضبط النفس في عملية الإصلاح مخافة أن تفقد الحركة كامل صلتها بأبناء بني إسرائيل ومشاعرهم الدينية، واجتهد في تطوير معارف أتباعه وذلك بما ألف ودون من كتب ورسائل أنكر فيها الأصل الإلهي للأسفار الخمسة، ورفض الاعتراف بالأحكام الشرعية الثابتة وحيا من السماء، وناصر الدعوة إلى إلغاء سنة الاختتان.
وبشر جايجر بمفهوم عالمي مجرد عن كل مضمون قومي، باعتبار أن إضفاء صفة قومية عليها يناقض ما أراده الله وقصده، وأعلن بأن داعيته إلى إجراء ما أجراه ينسجم مع التقاليد التلمودية المتوارثة التي تؤكد ضرورة رعاية المصالح تبعا لتغير الأزمان.
3- ومنهم “ديفيد فرايد لندر” (1706-1834)” زعيم الجناح الثوري، وهو أحد أكثر تلامذة مندلسون إخلاصا لدعوته والمؤسس الحقيقي لحركة الإصلاح، ولقد ذهب في جهوده إلى حدود متطرفة فقدم عام 1799 التماسا إلى السلطات الكنسية البروتستانتية ببرلين يطلب فيه السماح له ولأنصاره ومريديه الاشتراك في مراسيم الكنيسة، شرط أن يُعفوا من القول بألوهية المسيح، أو أي عقيدة تنافي العقل، ومن ممارسة الطقوس الدينية التي هي من لوازم المسيحية، وكان طبيعيا أن ترد الكنيسة طلبه هذا الذي تظمن ردة مشروطة عن اليهودية.
وقد كان أحد المفكرين اليهود القلائل الذين نادوا بالتخلي عن عقيدة الماشيَّح التي تسببت في عزل اليهود عن العالم غير اليهودي، وكان فرايدلاندر يرى أن المسألة اليهودية في شرق أوروبا لا يمكن حلها إلا عن طريق الإصلاحات التي تؤدي إلى الاندماج.
وكان هدفه هو الحفاظ على السبب الجوهري وراء نشاط الحركة والذي كان يتمثل في الدعوة إلى التوافق مع مطالب العصر والانصهار في المجتمع الغربي، واجتثاث العناصر والخصائص القومية التي من شأنها أن تؤثر سلبا على علاقات اليهود مع الأغيار.
4- ومنهم اليهودي الإصلاحي«إسرائيل يعقوبزون» الذي خصص أول هيكل للطائفة في بيته وكان ذلك في زيزن بألمانيا، ثم هيأ هيكلا آخر في بيته ببرلين سنة 1815.
5- وكان من أشد الإصلاحيين: «إسحاق صمويل ريدجو» (غوريتسيا، 1784-29 أغسطس 1855) وهو يهودي إيطالي.
6- ومنهم الحبر اليهودي «صموئيل هولدهايم»(1806-1860) من زعماء هيكل برلين عام 1849, وقد أقدم على استبدال السبت اليهودي ومراسيمه بالأحد المسيحي وطقوسه، وألغى الاحتفال باليوم الثاني لشهود القمر الجديد وولادته، ومع ظهوره وظهور جايجر بدأت حركة الإصلاحيين تتخذ أشد تطرفا وغلوا من قبل، فقد صرحا معا بلغة واضحة أن اليهودية عقيدة دينية وأخلاقية صرفة ليس فيها ما يشير إلى خصائص قومية.

كنيس الخراب
كنيس الخراب

7- وترتبط هذه الحركة الإصلاحية أيضا باسم «إسرائيل جاكبسون أو جيكوبسون» (1768-1828) الذي أسس أول هيكل (كنيس) يهودي للإصلاح في مدينة «سيسن برنزويك» بجهده الخاص ومن ماله، وقد جرى في هذا الهيكل ولأول مرة في تاريخ اليهودية أداء الصلوات والطقوس الدينية وفق صيغ المسيحية وتقاليدها الكنسية، وأول مناسبة يسمى فيها المعبد اليهودي بالهيكل.
8- سولومون فورمستشر (1808 – 1889) Solomon Formstecher حاخام ومفكر ديني ألماني يهودي، وأحد قادة حركة اليهودية الإصلاحية، اشترك في المؤتمرات الحاخامية المختلفة التي تناولت قضية اليهودية في العصر الحديث، وكتب عدة دراسات عن فلسفة الدين، ويُعَدُّ مؤلفه ديانة الفكر (1841) أهم مؤلفاته التي يصف فيها اليهودية بأنها ليست ديانة طبيعية (أي متمركزة حول الطبيعة) وإنما ديانة فكر عالمية ترى أن الإله يتجاوز الطبيعة، وأنه الحقيقة المطلقة ومصدر القيم. ويقصد فورمستشر بالفكر التحقق التاريخي الواعي للمطلق. ويذهب فورمستشر إلى أن التوحيد في الإسلام والمسيحية ليس كاملاً كما هو الحال مع اليهودية، وإنما هو توحيد مختلط تمتزج فيه العناصر الوثنية بالعناصر التوحيدية، وبذا تظل الأمة اليهودية التعبير الوحيد الصافي عن المطلق.
9- ومنهم إيـوجين بورويتـز (1924-) Eugene Borowitz حاخام ومفكر ديني إصلاحي. وُلد في نيويورك، وكان ابناً لموظف في أحـد مصانع الملابـس.
درس في جامعـة أوهـايو وكلية الاتحاد العبري، وحصل على الدكتوراه في التربية من جامعة كولومبيا. عمل بورويتز حاخاماً في عدد من المدن الأمريكية من بينها نيويورك، كما عمل حاخاماً في البحرية الأمريكية.
من أهم مؤلفاته لاهوت يهودي جديد يُولَد (1968) حيث يلخص المواقف اللاهوتية اليهودية الأساسية في العصر الحديث. أما كتابه القناع الذي يلبسه اليهود (1973)، فهو يتناول ما يتصور بورويتز أنه الأقنعة التي يرتديها يهود أمريكا. ويتناول الكتاب قضايا، مثل:
” الاندماج، وكُره اليهودي لنفسه، ومفهوم الشعب اليهودي، وعلاقة يهود الولايات المتحدة بالتقاليد الدينية اليهودية.”
ويتكون كتابه اليهودية الإصلاحية اليوم (1978) من ثلاثة أجزاء، وهو يتناول الأفكار والممارسات الأساسية لليهودية الإصلاحية، ويؤيد بورويتز في هذا الكتاب الاتجاه المتصاعد في صفوف اليهودية الإصلاحية نحو تَبنِّي الصهيونية والعودة إلى ممارسة بعض الشعائر اليهودية باعتبارها سبيلاً لتقوية الهوية. ويقوم بورويتز بتحرير مجلة شماع التي تعبِّر عن أفكار اليهودية الإصلاحية.
10- ومنهم كوفمـان كولر (1843-1926) Kaufmann Kohler أحد زعماء اليهودية الإصلاحية. وُلد وتلقَّى دراسته في ألمانيا، ثم استقر في الولايات المتحدة عام 1869.
وعمل حاخاماً للجماعة الإصلاحية في شيكاغو ونيويورك إلى أن عُيِّن رئيساً لكلية الاتحاد العبري عام 1903، وظل في هذا المنصب ثمانية عشر عاماً.
وكان كولر الشخصية الأساسية في مؤتمر بتسبرج الإصلاحي حيث تم تَبنِّي قراراته الإصلاحية الشهيرة. كان كولر كاتباً كثير الإنتاج في حقلي الفلسفة واللاهوت، وكان معارضاً قوياً للصهيونية.
وقد أسهم في تطور اليهودية الإصلاحية في الولايات المتحدة، وكان يُعَد العالم الإصلاحي الأساسي. اشترك في تحرير الترجمة اليهودية الأمريكية للعهد القديم، وفي الموسوعة اليهودية (القديمة التي صدرت في أوائل هذا القرن). وله دراسة منهجية تاريخية للاهوت اليهودي تُعَدُّ من أهم أعماله.

الهاسكالا
الهاسكالا

الإصلاح الديني اليهودي (الهسكالاه).. التسمية وأسباب النشأة

تسمى هذه الحركة بـ (الحركة الإصلاحية اليهودية) و (التقدميين، التقدمية) -وعادةً ما يُستخدَم مصطلح «تقدمي» بديلاً لمصطلح «إصلاحي» خارج الولايات المتحدة و (اليهودية المتحررة) وبعضهم يطلق عليها (اليهودية التجديدية) والبعض يرى أنها فرقة أخرى، وكانت تسمى (الهسكالاة) أي التفهم واليقظة والنهضة، وهي العصرانية عند اليهود، وتسمى الإتجاه الاندماجي، وهي حركة علمانية حاولت إصلاح اليهودية من خارجها، وشعارهم: (كن يهوديا في بيتك وإنسانا خارج البيت).
وتسمى الحركة: «النيولوج» وهو الاسم العرفي (غير الرسمي) الذي كان يُطلَق على أعضاء الجماعة اليهودية في المجر والمنتمين إلى اليهودية الإصلاحية.
ويقول منير البعلبكي في تعريف العصرانية: (إنها حركة تجديد واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى، داخل اليهودية وداخل النصرانية، وداخل الإسلام أيضا، إن هذه الحركة للتجديد عرفت في الفكر الديني الغربي باسم العصرانية “modernism”. وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد الانتماء إلى هذا العصر، ولكنها مصطلح خاص، إذ تعني العصرانية في الدين:” أي وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة”.
وأما أسباب النشأة فذكر المؤلفون أسبابا كثيرة، وهي:
أولا : تبني الإيمان بروح العصر، وأهمية التطوير في الدين ليناسب العصر، وساعدتها الثورة العقلانية في أوروبا.
ثانيا : وهو يشبه الأول أنها جاءت نتيجة لحركة التنوير في القرن الثامن عشر، وازدياد معدلات العلمنة في العالم الغربي وفي اليهود.
ثالثا : ومن الأسباب : ما يدور من شكوك حول النص الديني، وكثرة تناقضاته بحيث يمكن لكل أحد أن يجد مستند لفكرته.
رابعا : ومن أسباب النشأة أنها رد فعل للمتشددين الحسيديم وغيرهم، وإنقاذ اليهود من القيود التي كانوا يعانون من وطأتها طوال القرون. فيذكر الدكتور حسن ظاظا / ما ملخصه : أنه لا يمكن الحديث عن هذه الفرقة منفصلة عن شعبة من اليهودية التقليدية وهي شعبة المتصوفين (الحسيديم) وهم الذين وصلوا باليهودية المظلمة إلى أقصى درجات الدروشة، والتعلق بالخرافات، وادعاء المعجزات، وعلم الغيب، ونحو ذلك من مظاهر الدجل التي تلازم انحطاط الفكر الديني، في كل الأديان، وجموده.
وفي الوقت الذي كادت تسيطر هذه الفرقة على أرواح اليهود في أوروبا الشرقية وجزء من أوروبا الغربية، وعلى أجسامهم وأموالهم، ومع رقي العلم والثقافة في أوروبا، وظهور القوميات المستقلة، وتألق نظريات الحرية الفردية وحقوق الإنسان، أتيح لبعض الشباب اليهودي أن يأخذ بنصيبه من العلوم الحديثة، وأن يدخل من أبواب المعرفة نحو وعي أكثر من هذه الانعزالية اليهودية، وكانت هذه الحركة طلائع الوعي الفكري اليهودي.
فكانت هذه الحركة ردت فعل طبيعي للحسيديم، بل ولقرون التزمت والظلمات والدروشة، ولذلك كرهو المشنا والتلمود وكان عدوهم اللدود هو كتاب «شولحان عاروخ» الذي جمع فيه الرّبي يوسف كارو جميع الشرائع والأحكام والفتاوى والتفريعات الواردة في المشنا والتلمود، وأصبح العمدة عند المتحذلقين من اليهود، وكان الإصلاحيون يعتبرونه رمزا للجمود والتأخر، وعقبة في طريق التقدم.

حركة الإصلاح الديني البروتستانتية

مارتن لوثر ورفاقه
مارتن لوثر ورفاقه

خامسا : ومن الأسباب المذكورة أنها تأثرت بحركة الإصلاح الديني البروتستانتية التي همشت دور القساوسة والبابوات، وجعلت الكتاب المقدس مطروح لكل أحد يفهمه دون الحاجة إلى من يفسره.
سادسا : طبيعة الديانة اليهودية، فليس فيها مثلا معيار ديني يمكن به معرفة اليهودي من غيره، كما يوجد في الإسلام مثلا معيار يعرف به المسلم من الكافر، وعدم وجود تحديد واضح لأركان الإيمان في العهد القديم، ما يوجد في دينهم من تقديس للحاخامات مما جعل للعقل البشري مجالا في الدين، ومحاولة الوصول لهذه المرحلة أو إوالة الفواصل بين هذه الطبقة وغيرها من الطبقات.
وكانت هذه الطبيعة في الديانة نتيجة طبيعية فإن التوراة لم تدون إلا بعد نزولها بفترة طويلة، ودخل شروحها اختلافات كثيرة.
سابعا: وقد بدأ الإصلاح أيضا حين لاحَظ كثير من قيادات اليهود انصراف الشباب تدريجياً عن المعبد وعن الشعائر اليهودية بسبب جمودها وأشكالها التي اعتبروها بدائية متخلفة.
ثامنا : ومن الأسباب فشل اليهودية كنسق ديني في التكيف مع الأوضاع الجديدة التي نشأت في المجتمع الغربي ابتداءً من الثورة التجارية واستمرت حتى الثورة الصناعية وبعدها، وكذلك سقوط الجيتو كما يذكر د. المسيري.
تاسعا : وذكر في بعض المواقع على الشبكة أن سبب نشأة الحركة التأثر بالأفكار التي زرعها نابليون بونابرت وهي فكرة المساواة في فرنسا وفي البلدان الأوروبية التي وصلها نفوذه.
عاشرا: الشتات والعزلة والاغتراب الذي أصاب اليهود لمدة قرون كان من أبرز أسباب نشأتها، فكان أنصار هذا التيار يدعون لخروج اليهود من معازلهم ليأخذوا حقوقهم من دولهم ومجتمعاتهم، ويقومون بواجبهم تجاه أوطانهم التي يجب أن يكون لها ولاءهم أولاً وأخيراً على أساس المساواة في الحقوق والواجبات والمواطنية الكاملة. وكل من المؤلفين يعبر عن هذا بأسلوب، ولا مانع أن يكون كل هذه الأسباب صحيحة. فيعبر د. المسيري عن أسباب النشأة بما ملخصه : تحاول الحركة حل إشكالية الحلول الإلهي في الشعب اليهودي، وفي مؤسساته القومية، فهذا الحلول يجعل منهم شعبا مقدسا ملتفا حول ذاته، ولا يشير إلى شيء خارجه، وهو أمر مقبول داخل إطار المجتمع التقليدي، ولكن مع ظهور الدولة القومية التي ترى نفسها مطلقا فهي مرجعية ذاتية لا تقبل مرجعية متجاوزة لها، أصبح من الصعب أن تتعايش نقطتان مطلقتان – كما يعبر د. المسيري – داخل المجتمع الواحد. لذا كان على أعضاء الجماعات اليهودية أن يتعاملوا بشكل أو بآخر مع الحلولية اليهودية التقليدية، وكان عليهم الوصول إلى صيغة حديثة لليهودية يمكنها التعايش مع الدولة القومية الحديثة المطلقة مع إصرارها على أن يعيد اليهودي صياغة ذاته ورؤيته حتى يدين لها وحدها بالولاء.
وقد حاولت اليهودية الإصلاحية حل إشكال الشعب المقدس عن طريق تبني الحل الغربي للمشكلة، وهو أن يكون الحلول الإلهية في نقطة ما في الطبيعة أو في الإنسان أو في التاريخ، بحيث يشكل المطلق ركيزة نهائية كامنة في هذه النقطة وغير متجاوزة لها، وقد ظهر العديد من هذه المطلقات الدنيوية أو الغيبيات العلمانية، لكن الذي يهمنا هو المطلق الدنيوي الذي يسمى «الروح» «جايست» في أدبيات القرن التاسع عشر في أوروبا («روح المكان» أو «روح العصر» أو «روح الشعب» أو «روح الأمة») الذي حل محل الإله وقد آمن الإصلاحيون بروح العصر (بالألمانية : تسايت جايست zeitgeist). وهذه الصياغة من الحلولية تلغي الإله كنقطة متجاوزة، فتتوسع نقطة الحلول بحيث يصبح المطلق «روح العصر» إطارا يضم كل من اليهود والأغيار، وبذلك تصل اليهودية إلى صيغة تلائم العصر، وتتخلص من آثار الحلولية الجامدة التي عزلت اليهود عن مجتمعاتهم وجعلت معتقداتهم الدينية عبئا ينوؤون بحمله، وجعلت تعايشهم مع المطلق الجديد (الدولة العلمانية الحديثة) مستحيلا.
ويرى الإصلاحيون أن اليهود شتتوا في أطراف الأرض ليحققوا رسالتهم بين البشر، وأن النفي وسيلة لتقريبهم من الآخرين وليس لعزلهم. وجاء دعاة هذه الحركة ليقولوا بضرورة التخلي عن العنصرية التعصبية القديمة عند المطالبة بالحقوق المدنية، يقول إسحاق صمويل : (كيف نبرر أنفسنا أمام الأمم إذا كنا نثبت بسلوكنا كل يوم أن استمرارنا في التدين يتعارض مع التمتع بالحرية والمساواة).
كانت لمندلسون آراء جديدة على اليهود من الناحية السياسية والإنسانية العامة، وهي تعتبر دستورا لهذه الفرقة، وخلاصتها :
أن اليهود يجب أن يندمجوا في إنسانية العصر، وأن يخرجوا من قوقعة العنصرية التي حبسوا أنفسهم فيها طيلة قرون طويلة.
أن اليهودية دين فقط، وليست جنسية، وأنه من الخطأ أن أقول «يهودي إنجليزي» أو «يهودي روسي»..الخ، والأصح أن يقال إنجليزي متدين باليهودية، وروسي متدين بها، وهكذا.
أن المساواة في الحقوق المدنية بين اليهود وغيرهم غير ممكنة إلا إذا اعتبر اليهود أنفسهم مواطنين في البلاد التي يعيشون فيها، لا يتميزون بلباس أو أكل أو لغة
لا يمكن ذلك إلا إذا تحدث اليهود بلغات أوطانهم، وتعلموا في مدارسها، وحاربوا في جيوشها، ولبسوا من الملابس ما يشبه بقية المواطنين، وخرجوا من الجتو وأقاموا مع غيرهم من الناس.

انتظرونا فى باقى الإجزاء

طالع المزيد:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى