محمد قدرى حلاوة يكتب: النبوءة
بيان
في نهايات عام ١٩٨٥ كانت بداية إلتحاقي بكلية التجارة جامعة عين شمس.. وبصفتي مغرما بالقراءة منذ صغري كنت أتوقف في طريقي كثيرا ودائما أمام أي ” كشك جرائد” أو ” فرشة كتب”، آخذا في قراءة العناوين وتصفح بعض الكتب التي تجذب إهتمامي وتناسب ميولي الفكرية من شغف وولع بقراءة الكتب السياسية ودراسات التاريخ وبعضا من قطوف الأدب والرواية والشعر.
وكانت تلك العادة بالطبع تتوقف على سماحة البائع وطول باله.. فكان هناك من يقبل بأن تقلب في الكتب وتتصفحها قبل شراؤها باعتبار ذلك حق أصيل للقارئ.. وآخرون لا يقبلون بالأمر ويتأففون وأحيانا ما يواجهونك بحدة على إعتبار أن سلوكك هذا دليل على عدم جديتك في الشراء وأنك هكذا تفسد رونق الكتب.
وأدى ذلك بالتأكيد إلى توثيق العلاقة مع بعض البائعين ونهايتها مع البعض الأخر.. وهنا بدأت أواصر الصلة تنعقد مع “عم محمد”.
كان ” عم محمد” ضخم الجثة في أوائل العقد الرابع من عمره.. له شارب ضخم متهدل على وجهه رسم على ملامحه جدة وهيبة.. ينظر إليك بعينين حادتين وينطق بصوت خشن جهوري.. تنفر من التعامل معه لأول وهلة إلى أن تكتشف مع المعاملة شخصا أخر تماما محجوبا خلف تلك الهيئة الصارمة..كأن ملامحه سياجا وقضبانا تواري شخصا عذبا غاية في الطيبة والهشاشة، “جدع” بلغة أهل البلد وتوصيفاتهم العبقرية.
كان يفترش مساحة في ” موقف النقل العام بالعباسية”.. يعرض فيه إصدارات الجرائد المختلفة ومجموعة متنوعة من الكتب المختارة بعناية والتي تدل على ذكاؤه ومعرفته بالسوق ورغبات القراء رغم أنه لم يتلقى نصيبا يذكر من التعليم.
وكان يلمح سريعا اهتماماتك وميولك ويعرف كيف يروج لمعروضاته من الكتب والجرائد.. تاركا إياك تتفحص الكتب وتقلب في الجرائد كيفما شئت ويقول دائما بسخرية محببة عندما تستأذنه في ذلك ” قلب يابيه براحتك.. هما مش أكل وشرب علشان يبوظوا”.
وكنت ألاحظ عنفه وشدته مع الباعة الجائلين و ” السريحة” وأباطرة الموقف.. وكان يقول لي عندما يلاحظ توقفي عن تصفح الكتب انتظارا لإنتهاء إحدى المشادات: “علشان تعيش وسط ولاد ال….. دول مينفعش تبقى طيب”، ثم يجلس مشعلا سيجارة مذهبا غضبه مع خيوط الدخان الملتفة متصاعدة.
وكانت تلك الفترة عامرة بالصحافة الحقيقية خبرا وتحليلا ووجهات نظر مختلفة.. ومنافسة صحفية شديدة تهدف إلى جذب القارئ وشد إنتباهه.
كانت هناك حركة فوران حقيقية تحرك قليلا بحر السياسة الراكد.. كانت صحف ” الوفد” و ” الأهالي” و ” الشعب” فى مجدها تنافس الصحف الحكومية بقوة.. ونجحت في خط مسارا مميزا لها وصار لها سوقها الخاص وقاعدة كبيرة من القراء.
وانتشرت في تلك الفترة عادة مصادرة الأمن لبعض أعداد الجرائد.. منها مصادرة عدد جريدة ” الشعب” فى يناير ١٩٩٠ والذي أورد وقائع سباب وزير الداخلية الراحل ” زكي بدر” للمعارضين في أحد المؤتمرات الجماهيرية بأقذع الألفاظ والذي أدى إلى إقالته.. وكان “عم محمد” يحتفظ ببعض النسخ قبل مصادرتها ويبيعها لبعض خاصته وكنت بالطبع من بينهم.
كما لا أنسى أنه خصني بنسخة من جريدة “الأهالي” التي نشرت عددا خاصا لنشر رواية ” نجيب محفوظ ” ” أولاد حارتنا” عقب محاولة اغتياله في أكتوبر ١٩٩٥.. والتي صدرت بأعداد قليلة ونفذت من السوق بسرعة فائقة.
توطدت أواصر العلاقة مع “عم محمد” وتشعب الحديث بيننا.. وكان دوره البارز معي قد نما عندما بدأ مشروع “مكتبة الأسرة” فى عام ١٩٩٤.. وحينها كنت أحصل على كل إصداراتها رغم محدودية النسخ الصادرة، من “عم محمد” الذي كان يختص بها نفر قليل من زبائنه.
وكلما تصفحت كتابا من إصدارات ” مكتبة الأسرة ” تذكرت فضل هذا الرجل الذي لولاه لما تمكنت من اقتناؤه.. ولتكبدت العناء في العثور عليه أو اقتنيته بأضعاف ثمنه على الأقل.
في ديسمبر عام ٢٠١٠.. ذهبت إلى “فرشة” عم محمد ولم أجده.. وعاوت الكرة مرات بعدها ولم أجده أيضا.. وبسؤال بعض الباعة الجائلين حوله علمت أنه تشاجر مع بعض أباطرة الموقف الذين حاولوا فرض إتاوة عليه ورفض ذلك بعنف وحدة.. فوشوا به إلى ” البلدية” التي صادرت بضاعته في إحدى حملاتها واختلطت الكتب والجرائد مع حبات الخضر والفواكه وقدر الفول والخبز على العربة التي حملت البضائع المصادرة.. ولم يظهر الرجل مرة أخرى.. وبقي مكانه فارغا في موضعه.
وتذكرت إحدى مقولاته الأثيرة لي عندما قال وهو ينفث دخان سيجارته كسحابة أخفت ملامح وجهه والتي كررها على مسامعي كثيرا ” إحنا اللي زينا عايشين بده (مشيرا إلى ذراعه) وهيموتوا برضه بيه.. واللي زيكوا عايشين بده ( مشيرا إلى عقله) وهتموتوا برضه بيه.. ومازلت في إنتظار تحقق نبودة” عم محمد “.