محمد قدرى حلاوة يكتب: العيد

بيان

(١)

الخميس ٢٣ يناير ٢٠٠١.. طقس مشمس دافئ نوعا ما لمثل هذا الوقت من السنة.. التلفاز ينقل في بث مباشر من خلال قناته الأولى افتتاح الرئيس مبارك “لمعرض القاهرة الدولي للكتاب”  – في دورته ٣٣ على ما أتذكر – يدخل الرئيس مبارك قاعة الاحتفال وسط تصفيق شديد من الحضور.. ” عاطف عبيد”.. ” صفوت الشريف”.. ” كمال الشاذلى”.. ” فتحي سرور”.. يجلسون في مقدمة الصفوف وما علاقة هؤلاء بالكتاب والثقافة والمثقفين؟.. ” فاروق حسني” الفنان السيريالي الذي نجح بقدر ما في تدجين بعض المثقفين.. بعض العمائم البيضاء والسوداء متجاورة.. ألسنا شعبا يضج بالوحدة الوطنية؟!.

بعض المثقفين متناثرين في القاعة هنا وهناك.. الغالب الأعم منهم من الفئة المعتمدة من المثقفين.. منشدي الجوقة الزاعقة ومرددي النغمة المختارة.. هؤلاء الذين يلوون عنق الكلمة ويزنون بها لإرضاء السلطة.. هم السهم المسموم الراشق في عقل الوطن.. بعض المفكرين المناضلين معتزلي النضال والذين يروحون لأفكارهم بحذق ومهارة فائقة.. يرصعون أقوالهم بالمصطلحات الفخمة الجزلة مزينة السياق المنسوج بحرفية.. يشفع لهم في ذلك تاريخ نضالي قديم وسردية التعذيب والاعتقال .. هل من حق المثقف الإعتزال والنكوص والركون إلى بلهنية الماء السيار والعشب والكلأ ؟.. النأي عن المغرم وإرتجاء المغنم؟.

الجميع بشيد بالرئيس راعي الثقافة والمثقفين.. هو راعي كل شئ في الحقيقة.. مزحة من الرئيس تطلق الضحكات والحبور في القاعة.. يالا التواضع والبساطة!!.. استعراض سريع للإنجازات الثقافية في عهد الرئيس.. هتاف مثقف ملتاع ومتيم في عشق القائد وتصفيق يلهب الأكف من الحضور.. ابتسامة عرفان من ربان السفينة.. هو صاحب العرس والألقاب والهتافات ومحور الحفل والمناسبة وبؤرة الضوء والفلاشات.

سينتهي كل ذلك حتما.. وسيشرق صباح جديد.. يفتح فيه المعرض أبوابه للجمهور.. ويحل العيد بطقوسه ومراسمه وبهجته.. غدا ليس ببعيد.. لا بأس من احتمال تلك السخافات كلها.. المهم الآن مراجعة قائمة الكتب المبتغاة.. ومراجعة الميزانية المطلوبة للشراء.. وتقديم الأولويات.. وتأجيل بعض أحلام الإقتناء للأعياد القادمة.. والتهيؤ لمعركة قادمة من المساومات و ” الفصال” والجهد والدأب لخمسة عشر يوما قادمة.

(2)

غدا ” يوم العيد.. هو عيد خاص جدا.. طقوس خاصة ينبغي اتباعها في ذلك العيد” .. جمعية” تهيئ مبلغا لا بأس به يكفي لشراء المرام من الكتب.. زي خاص يتحمل ” الأمطار” و ” عفار” الأرض الترابية ” لسور الأزبكية” أهمه” معطف ” رمادي به” جيب ” سري صغير يمكن الإحتفاظ بالنقود به في مأمن.. ” أجازة” من العمل لمدة أسبوع على الأقل.. بعض ” البلاستر ” اللاصق لمداواة جروح الأصابع التي تظل تمضي بلا توقف كجيوش النمل الزاحفة تتفحص صفوف الكتب.. والأهم من كل ذلك ” قبعة” صوفية ثقيلة تقي من برد “يناير ” وعواصفه المرعدة.

تبدأ الجولة من ” بوابة ١٠” مرورا بمكتبة” مدبولي” التي تعرض كتبا شديدة القيمة خارج المكتبة بجنيه واحد فقط.. بعدها يبدأ السعي نحو ” صالة ٤” لتفقد جناح ” الهيئة المصرية العامة للكتاب”.. ثم العروج على” الهيئة العامة لقصور الثقافة”.. و ” المشروع القومي للترجمة”.. وبعض دور النشر” اللبنانية”.. إلي أن تبدأ مرحلة النضال الحقيقي في رحلة كل يوم لخوض غمار وعباب” سور الأزبكية “.

مساحة ترابية فسيحة مربعة تضم عشرات من ” أكشاك ” الكتب القديمة.. يأتون تقريبا من كل أنحاء مصر.. ” العتبة”.. ” السيدة زينب “.. ” النبي دانيال “.. ” طنطا”.. تبدأ رحلة المساومة و ” الفصال”.. للتاجر عين صقر .. تلمح المشتري ومقلتاه تلمعان رغبة وأملا في إقتناء شئ ما.. تخرج أحيانا فائزا.. وأخري مهزوما.. لكنها هزيمة مقبولة لا تخلف ثمة مرارة.. سوي بعض التغيير في خطط الشراء.. على أية حال فقد أستنفذت أوراقا نقدية فانية بالية.. بأوراق تفيض فكرا وخيالا ومنفعة باقية خالدة.

يتطلب الأمر أحيانا الإختباء تحت ” العواميد” و ” البروزات” فى انتظار انتهاء هطول المطر.. أو قليلا من التحمل والاستمرار في فرز الكتب من تحت أغطية ” المشمع” رغم نظرات البائعين الناقدة.

أعتقد أن شيطانا مريدا يتملكني في تلك اللحظات.. أو أنني في حالة من الأسر والنشوة العارمة كمن عثر على كنز أو خبيئة.. الممسوس بالكلمات والحروف لا برأ له ولا دواء.

للكتب القديمة سحر خاص.. هل هي ” نستولوجيا” الحنين للماضي وتلك الأوراق الصفراء القديمة برائحتها؟.. هل تكمن العلة في تلك الهوامش المتناثرة على حوافها هنا وهناك من قارئ نهم مجهول وأنت تحاوره بهوامش أخرى وقول على قول؟.. ترى هل ما يزال صاحبها القديم حيا أم يتطلع إلىّ من عالم الروح وأنا مستلقي أقرأ الآن؟.

بعض الإهداءات من كتاّبها إلى آخرون.. كيف وصلت إلى هنا إلى يدي؟.. لا إجابات محددة.. ولعل لتلك الإجابات المراوغة وشغف الأسئلة الأبدية ما يضفي القيمة والفضول لكل ما هو غامض ومجهول.

(3)

بدايات عام ٢٠٠١ لم تكن هناك أحداثا سياسية ساخنة ملحة سوي “انتفاضة الأقصى” – بدأت في ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٠ – كانت المشاعر ملتهبه تعاطفا مع الفلسطينيين.. الصورة الأيقونية ” لمحمد الدرة” وهو يستشهد بين أحضان أبيه العاجز عن الدفاع عنه.. الأغاني والقصائد الملحمية.. قرارات السياسة العربية المتخاذلة.. نشتعل حماسا مع فلسطين في كل نكبة وملمة.. تخبو جذوة تفاعلنا بعد حين.. نكتفي بإغماض أعيننا خشوعا وتبتلا ونحن ندعو وراء الإمام بالنصر على الأعداء.

كانت الصورة كاشفة صافعة بالضعف والخذلان.. لكنها لم تكن سافرة إلى هذا الحد من العجز والهوان كما بدت صارخة فيما تلا من عقود.. وإن كان قد بدا جليا أنه لم يبق لنا من ” الحلم العربي” سوي أغنية رددناها وقتها وما نزال نرددها.. وأمنية تبدو كطائف حلم مراود مراوغ لا يأتي أبدا..

” جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنما..
يقدر شعاع النور يوصل لأبعد سما..
ده حلمنا.. طول عمرنا.
حضن يضمنا كلنا.. كلنا”..

كان ” جورج بوش الإبن” مازال ساكنا جديدا في ” البيت الأبيض”.. لم تظهر جرائم وكوارث السياسات الأمريكية في الألفية الجديدة بعد.. كنا قد ودعنا عقد الألفية السالفة ببضعة حماقات من سلفه ” بيل كلينتون” بدونا قادرين على تحملها وإستيعابها بعد.. كان علينا أن نرتضي – ويغتبط بعضنا أحيانا – لقصف العزلق المحاصر في عملية ثعلب الصحراء، علها تطغى وتمحو بقعة السيد الرئيس ” الفحل” على فستان ” مونيكا” الأزرق.. لعنا بعدها ” عرفات” الذي أضاع فرصة مائدة سلام أخرى في منتجع” واي بلانتيشن”.. ندم البعض منا على سياسات منتجعات ” كلينتون” وأسلافه.. عندما عهدنا صلف وتجبر خلفه وهو يمحق ” العراق” و ” أفغانستان” من مزرعته ” بكراوفورد”.. هل ربحنا شيئا أو نصفنا أحد في القاعات والموائد والمنتجعات والمزارع؟.

بضعة مسيرات ومظاهرات مضت تطوف معرض الكتاب وخصوصا أيام الجمعة وسط حراسة شديدة.. الحقيقة ولا أدعي البطولة أنني كنت ألمحها بينما عقلي وجسدي منهمكين في مهمة أكثر إلحاحا وقد كاد الغوص في غمار الكتب يصل إلى أنفي.

(4)

نحو تسعة ساعات على هذا المنوال من السعي والدأب.. يمكنني الآن أن أستريح.. أشعر بالتعب وأنا أسير محملا بالأكياس ” البلاستيكية” الثقيلة ماضيا نحو المنطقة المخصصة للطعام.. يمكنني أن أتناول بنهم طبقا من ” الكشري” الساخن من ” أبو طارق”.. أو بضعة ساندوتشات من ” الفول” و ” الفلافل”.. لا يجب أن يطغي شيئا على “الميزانية”.. الطعام محض ضرورة بقاء.. والقراءة هي معناه وسببل الخلود.

” السماعات” الكبيرة تدوي في الساحة.. الصوت المدوي الجديد ” شعبان عبد الرحيم”.. ” شعبولا “..

” بكره أسر ائيل .. وشمعون ويا شارون
وبحب عمرو موسى .. بكلامه الموزون”..

أصبت الرجل في مقتل يا عم” شعبان”.. أقيل ” موسى” بعدها ببضعة شهور وتم تنصيبه أمينا ” للجامعة العربية ” ذلك الكائن الأحفوري المنقرض.. شاهد المهزلة ومدونها في كل حين.. على أية حال أوجز المطرب كينونة الحال وجوهره عندما شدا بعدها قائلا” وأهو كله ضاحك على كله”.

يمكنك أن تلمح هنا وهناك عائلات بسيطة أتت للتنزه.. لا علاقة لهم تقريبا بمناسبة المعرض سوي أنه مكان” لفسحة” بسيطة غير مكلفة.. الأب يسير ممسكا بيده طفل صغير متشبث ” ببالونة” ترتفع في الفضاء.. والأم تصفع ولدا أخر باكيا مصرا على شراء بعض الحلوى المكشوفة.. باعة جائلون هنا وهناك.. يبيعون أي شئ وكل شئ.. هؤلاء العشاق المارون بخطوات بطيئة متشابكي الأيدي يتبادلون عبارات الغزل الرقيقة.. إبتسامة مباغتة إرتسمت على وجهي عادت صورتها تطفو من أغوار الماضي.. وعيناها تمرق في الحشا كما أخترقته أول مرة.. وصوت” منير” يردد:

” أميرة عاقلة في الحجلة .. العقل يطير..
كانت صغيرة بضفيرة.. وكان هوه صغير..
ساعة ما تضحك مع أخوها تلاقيه بيغير..
ولما ترفع قلتهم تلاقيه عطشان..
زمانه ماشي بخطوة يضم..
زمانها كبرت وبقت أم. .
زمان جواب جايلها بيجري على العنوان” ..

آه يا ” درويش” ” كبرنا.. كم كبرنا.. والطريق إلى السماء طويلة..

مهرجان حقيقي لا تملك سوي أن تحبه وتقدس طقوسه..
إنتقل المعرض إلى أرض عرض جديدة.. ربما تكون أكثر زهاء وبهاء وفخامة.. لكنها بالتأكيد أقل بهجة وإعتيادا وحفاوة.. جمال بعض الأشياء في بساطتها… ألا يكفيه قصورا أنه لا يضم ” سور الأزبكية”؟.. أم أنه قد أستغني عنه بالسيد ” ماكدونالدز” والعم ” كنتاكي؟!”.

لا يذهب التعب الثقيل في كل عضلات الجسد سوي متعة لحظة الجلوس و ” تقييد” الكتب الجديدة في ” الفهرس”.. وصفها بجوار الكتب الأخرى.. لحظة إنتشاء وإنتصار تغني عن كل عناء.. وتحفز لجولة جديدة في الصباح الآتي.. وبضعة أسئلة تلح في كل حين.. هل يمتد بي الأجل لأقرأ كل تلك الكتب؟.. ترى من يعقب على هوامشي؟.. هل تضحي صديقي بهديتي وإهدائي؟.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى