القس بولا فؤاد رياض يكتب: اليوم العالمي للتسامح

بيان
منذ عام ١٩٩٦ واستناداً إلى “إعلان مبادئ بشأن التسامح” ، ذلك الإعلان الذي اعتمده المؤتمر العام لليونيسكو في دورته الثامنة والعشرون بباريس يوم ١٦ نوفمبر ١٩٩٥م، والأمم المتحدة تحتفل باليوم العالمي للتسامح.
ومصطلح “التسامح” يحتاج إلى تحديد وضبط
فلقد كان فولتير يقول دائمًا “قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك”، وهذه المقولة يجب استحضارها هنا ونحن في إطار تعريف التسامح حيث تداخل التعريفات وتتعدد كثيراً.
فالتسامح (Tolerance) الذي نتحدث عنه ليس هو الغفران (Forgiveness) وليس هو العفو عن الإساءة، ولكننا يمكننا أن نصل إلى المعنى المقصود من خلال بعض الإجابات التي أطلقتها منظمة اليونيسكو عن سؤالها الذي طرحته عام ١٩٩٥ : ما هو التسامح؟
– التسامح هو احترام حقوق الآخرين وحريتهم.
– التسامح هو اعتراف وقبول للاختلافات الفردية، وتعلم كيفية الإصغاء إلى الأخرين والتواصل معهم.
– التسامح هو تقدير التنوع والاختلاف الثقافي، وهو انفتاح على أفكار الاخرين وفلسفتهم بدافع الرغبة في التعلم والاطلاع على ما عندهم.
– التسامح هو الاعتراف بأنه ليس هناك فرد، أو ثقافة، أو وطن، أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة.
– التسامح هو موقف إيجابي تجاه الآخرين دون استعلاء أو تكبر.
وبالإجماع التسامح هو احترام وإقرار وتقدير التنوع الغني لثقافات عالمنا ولأشكال تعبيرنا وطرق ممارستنا لآدميتنا، والتسامح ليس واجباً أخلاقياً فحسب إنما أيضا مطلب سياسي وقانوني.
واضح من كل هذه التعريفات أن التسامح يعني أن هناك تعدداً وتنوعاً في المجتمع أيا كانت طبيعته، وأن التسامح يعني قبول الاختلاف، ونقيضه هو التعصب الذي ينفي الاختلاف ويسعى للبحث عن التماثل، وإنكار أي شكل من أشكال التنوع والاستقلال. فالتعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معيناً إدراكاً ايجابياً محباً أو سلبياً كارهاً دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية. لذا فإن موضوع التعصب أو التطرف بكل أشكاله السياسية، أو الأدبية، أو العنصرية، أو الدينية إنما هو محاولة لا يألوا الإنسان فيها جهداً لمصارعة ذاته بذاته، فإما أن ينتصر ويخضعها لسلطان العقل، أو أن تفلت من عِقال العقل، وتنحدر نحو الحيوانية بعد أن خلقها الله بأحسن تقويم. فالتعصب هو اتخاذ موقف متشدد في الرأي تجاه فكرة يعتبرها المتعصب الأساس والحقيقة المطلقة الوحيدة.
أسباب التعصب:
١- أولاً وقبل كل شيء نزعة ذاتية أنانية “نرجسية” كامنة في كل كائن بشري ولكنها تطفو إلى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ الجو الملائم لها. حين تواجه الذات “الأنا” بالأخر وتتصور أنه تتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه فالمسألة إذا هي تصور لإيمان راسخ كما قال سارتر “الأخرين هم الجحيم ”
٢- التعصب يبدأ بالكلام وينتهي بالإرهاب مروراً بالتجنب والاضطهاد والاعتداء البدني
٣ – التعصب هو تقديس للأنا، وإلغاء الأخر وكل ما يقوله الأخر في حكم الخطأ الفادح، ويقود هذا إلى موت لغة التواصل والحوار وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق وتحفر الخنادق وتُستباح الدماء.
٤- التعصب هو انغلاق وانكفاء نحو الداخل، وارتداد عن الذات، وتقوقع في زاوية ضيقة، ورؤية قاصرة للكون.
إن شريعة الله هي أن أحب أخي في الإنسانية قبل كل فروض الصلاة والصوم فما قيمة الصلوات والأصوام وكل مظاهر العبادة إن لم تكن محبة حقيقية للإنسان الآخر؟!
هناك فرق شاسع بين التدين والإيمان الحقيقي.
فالتدين كثيراً ما يكرز على المظاهر الخارجية وهي أمور جميلة وهامة.
بينما الإيمان الحقيقي هو موقف أخلاقي يقدس القيم ويحترم الإنسان الآخر أياً كان لونه أو دينه أو مذهبه.
فما أسهل التعبد لله ورفع الصلوات والأصوام، ولكن ما أصعب التسامح وقبول الآخر المُغاير.
إن الله سبحانه يريد أن يعيش البشر أسرة واحدة تربطهم رابطة المحبة لذا فهو سبحانه لا يقبل عبادة مزيفة من قلب ممتلئ بالكراهية والتطرف والانانية، فالعبادة الحقيقية التي تسر قلب الله هي التي تمر عبر الإنسان الآخر من خلال محبته وخدمته.
منذ عام ١٩٩٦ والأمم المتحدة استناداً إلى اعلان اليونسكو ١٩٩٥ تحتفل باليوم العالمي للتسامح الذي يُعني فيما يعنيه أن المجتمع البشري بحاجة إلى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور إنساني وأخلاقي لا يمكن تقدم المجتمع الدولي والإنساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللا تسامح إلا بتعميم فكرة قبول الآخر.
التسامح لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو فريضة سياسية وقانونية في الوقت نفسه فلن ينعم عالمنا بالسلام الحقيقي دون ترسيخ لمفهوم التسامح
فالتسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبهذا المعني فهو مسؤولية قيمية وواقعية للإقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون.
وعلى الصعيد الديني فإن عدم التسامح يعني التمييز بحجة الأفضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر خصوصا ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التعصب الطائفي او المذهبي في محاولة لإلغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الآخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً إن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شاهدها العالم لأنماط متنوعة مختلفة متداخلة متفاعلة وأحياناً يتم التشبث بالسلوك وممارسات عفى عليها الزمن وأصبحت من طراز الماضي.
يتطلب التسامح إعادة صياغة العلاقة بين الأنا والاخر على اساس المواطنة والمساواة الكاملة ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان والفطرة والإنسانية ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً.
فلا يمكن أن أعيش بدون الآخر ولا أستطيع حتى أن أمارس العبادة بدون الآخر بل لا أستطيع الوصول إلى الله بدون الآخر أياً كان لونه أو دينه أو جنسه أو جنسيته أو عرقه أو معتقده. فالحضارة الإنسانية ازدهرت بالتنوع.
والأحادية لم تصنع إلا أفولاً وذيولاً فلذا نحتاج لأن نختلف ونأتلف ويكون لنا قناعة أن اللحن الواحد لا يمكن أن يعطي نغماً جميلاً والعصفور الواحد لا يمكن أن يصنع ربيعاً والزهرة الواحدة لا يمكن أن تصنع بستاناً!!
قال محيي الدين بن عربي أحد أشهر المتصوفين
كنت قبل اليوم أنكر صاحبي …… إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صوره …… فمرعى لغزلانٍ وديرً لرُهبانٍ
أدين بدين الحب إني توجهت …… ركائبهُ فالحبُ ديني وإيماني
نصلي أن يسود التسامح كل ربوع العالم ويعيش الجميع أسرة بشرية واحدة بالحب والتسامح.

………………………………………………………………

كاتب المقال: كاهن كنيسة مارجرجس المطرية القاهرة

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى