محمد قدرى حلاوة يكتب: سقوط 

بيان

وقف أمام المرآة.. الشعيرات البيضاء زحفت بجحافلها وغزت رأسه.. لم يتبقى سوي بضعة شعيرات سوداء تقاوم.. ستسقط حتما في تلك المواجهة الخاسرة.

لا أحد ينتصر على الزمن وأحكامه.. تذكر قبل عشرين عاما عندما كانت المساحة البيضاء خجولة تتخفي وسط السواد المتسيد.. لم يكن يأبه أو يهتم.. كانت كل شعيرة متحولة من النقيض إلى الآخر تحمل معها ساعات.. أياما.. سنوات من عمره الذاهب نحو الفناء.. كيف انقضت؟.. ومتى؟.. إجابات لا تعيها ذاكرته التعبة.

تناول قليلا من معجون الحلاقة.. أخذ يمرره على لحيته الثلجية بالفرشاة.. لاحظ العروق النافرة في عنقه.. “تفاحة آدم”.. خطيئته.. التجاعيد والتغصنات الغائرة.. كل خط ارتسم على وجهه يحكي قصة تستحق أن تروى.. لكنه لا يجيد الحكي.. يؤثر الصمت.. الراوي بداخله يجول بوجدانه.. يضيف للحدث ويمحو.. نحن نجمل الحقيقة.. نضيف إليها غلالة من الأكاذيب نصدق بعدها بأنها كذلك.. نلون المشهد بألواننا المفضلة.. شعر فجأة بالألم.. شروده أدى بالشفرة الحادة لجرح وجنته.. شاهد خيطا لزجا من الدماء يسيل على العنق.. بدت على ملامحه آمارات السعادة.. رافد الدم الساري دليل الحياة في البدن.. بقاء النبض.. الشهيق والزفير.. ثمة أشياء تبدو صغيرة مكرورة معتادة تربطنا بالحياة… بحبلها السري.. وسرها الأبدي.. كم نحب الحياة حقا.

بدت الشعيرات البيضاء الهاوية في تجويف ” الحوض” مثل الهشيم.. كأوراق الشجر الأصفر الملقاة في العراء يعبث بها الهواء.. فتح “الصنبور”.. سرعان ما أزاح تيار الماء الجاري تلك البقايا الهاوية.. ذرتها كالرياح صارت أثرا بعد عين.. منذ لحظات كانت بارزة من الوجنتين.. بعضا من صاحبها.. معه أينما ولي وجهه.. تصاحبه لاتفارقه.. ظلت تنمو مطمئنة.. ظنت أنها باقية.. خالدة.. آه من ذلك الوهم الكاذب والظن المطمئن الساكن؟.. ألا نرتكب نحن أيضا إثم الظن هذا؟.. خطأه.. خطله.. عبثيته.. سنسقط نحن أيضا مثلها تماما بعد حين..لن تتوقف بعدنا الحياة.. ستمضي في سيرورتها.. لا شيئ يدل على أننا مررنا من هنا.

حقيقة مؤكدة.. مؤجلة.. الأمل المتشبث بالحياة يقصيها، يخفيها في ثنايا العقل.. تقنيات الخداع صارت بارعة.. كم تريد أن يبدو عمرك؟.. ما هي المقاييس التي تريدها لجسدك؟.. هل تريد بعض المساحيق والأصباغ؟.. لدينا المزيد.. بعض الزيف يلطف سطوة الحقيقة.. مطلقها وأحكامها.. دفق المد يلهينا أحيانا عن انحسار الجزر.. تذهب النضارة شيئا فشيئا.. يخفت الضوء.. الوهج.. اللهفة.. الشغف… رويدا رويدا.. يحل الظلام.. يتسيد.. لكن لا شيئ يعيد طفولتنا.

جف خيط الدم مؤقتا.. صقيع آت لا محالة سيجمده.. هل يعنيه – الصقيع – حقا لون الشعر أسود أم أبيض؟.. هل يبالي بإنكارنا لحقيقته؟.. حرب محسومة نخوضها ونخسر فيها.. فارقت الشعرة السوداء راحلة تاركة منبتها للبيضاء.. لم نبكيها.. لم نرثيها.. الآن سقطت البيضاء.. تنمو أخرى لتسقط من جديد.. ربما سقطنا قبلها.. لن ترثينا هي الأخرى.. سيكون هناك متسعا من الوقت ليرثي بعضنا بعضا… ليذوب الجسد ويتآكل.. يتلاشى الوجه.. ويبقى وجه الحقيقة.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى