محمد قدرى حلاوة يكتب: استعادة

بيان

تتتابع على الشاشات المضيئة ذبذبات القلب بخطوطها الصاعدة والهابطة كالأهرامات المتلاصقة. كلما صعدت وهبطت أعطت دليلاً على استمرار القلب المنهك في بث نبضات الحياة.

مجرد خطوط تكشف عن عنفوان حياة أو خمود موت. أقصر طريق بينهما هو استقامة الخط، وصافرة منذرة بمحاولات يائسة من نبضات كهربائية تحاول إفاقته. لكن، لا شيء يجدي عندما يقرر القلب المتعب أن يستريح.

انطلق في الحقل يطارد الفراشات، وصيحات الكبار من بعيد تنادي: “لا تبتعد كثيرًا”.

كان يخاف من الظلام و “الغول”.

سمع صديقه يقول إن “الغول” يقطن في آخر الحقل، هناك عند شجرة “السنط” العتيقة.

ربما لهذا السبب لم يجرؤ أحد على اقتلاعها. والده يضرب الأرض بفأسه في حركة أبدية، وطيور “أبو قردان” تخطو في هدوء ورشاقة، تهبط بمنقارها لتلتقط صيدها.

تلك البقرة المعصوبة العينين تخور وتدور بلا نهاية. خرير الماء الرقراق في الجدول يملأ الأجواء، وهو يجري مهرولاً لبيته قبل حلول الظلام، خوفًا من صفير الرياح في الحلكة. هل تكون تلك أصوات العفاريت التي ترويها حكايات الجدة؟ كم كانت الحياة بسيطة، وكيف تعقدت وأصبحت بهذا الشكل؟

الأهل حوله، وطاقم التمريض يمر بين حين وآخر لتفقد المحاليل المعلقة بالأوردة الكليلة، بينما طيف من الصور يتداعى إلى ذهنه.

يقولون إنه في غيبوبة، وهم قلقون يخفت أملهم في نجاته شيئًا فشيئًا.

مساكين هم، آه لو يعلمون!.. الآن، والآن فقط، تتجلى المعاني والرؤى.

مرت كالطيف في حنايا روحه، هي كما هي، لم تكبر ولم تشيخ، بشعرها الأسود الناعم المضفر الذي يبدو كأنه عقيق تشكل في جدائل.

عيناها السوداوان الآسرتان، وأهدابها تقف كحراس على أبواب الجنان، كالحراب المسنونة التي تنذر: إياك والإبحار في لجج السحر.

عيناها فخ وشرك لم ينجُ منه أحد. نداهة… ذهاب بلا عودة. تغمرك بهدوء وحسم كالرمال الناعمة، بابتسامات الوعود وتقطيبة حاجبي الرعود. حاضرة غائبة، غائبة حاضرة، ملكت النقائض والأضداد، وبالأضداد يكتمل المعنى.

يبدو أن الحالة تسوء، والأمل يضعف. الغيبوبة قد طالت، وكل المحاولات باءت بالفشل، كما يقول الأطباء.

حديث هامس يدور حول الخطوات القادمة: ماذا لو حدث المقدور؟ هناك ترتيبات لابد منها. عندما تهرب خيوط الأمل وتتمزق، يصبح اليأس واقعًا وحلًا ناجعًا.

القدرة على التكيف مع الفقد والنسيان ضرورة وسيرورة حياة.

العصافير تزقزق كل صباح. دائمًا ما يستيقظ على صوت جلبتها، يتنازعون أحيانًا ثم يعودون للهدوء.

يمد يده داخل القفص ليضع لها الحب والماء. لاحظ أنهم صامتون اليوم، أحدهم يقف ساكنًا على الأرجوحة منتفخ العنق، والآخر صامت في قاع القفص.

في اليوم التالي، وجد واحدًا منهم راقدًا بلا حراك. تساءل: ماذا أفعل بالآخر، هذا الصامت بلا دموع؟ لاحظ أن عنقه قد انتفخ هو الآخر.

فتح باب القفص. بدا العصفور مترددًا للحظات، كأنه يتساءل: أألآن؟ وأين أذهب بعد وليفي؟ ماذا يفيد التحليق في اللحظات الأخيرة؟ انطلق مرفرفًا بجناحيه نحو السماء.

ما أروع أن تستنشق عبق الحرية وتنطلق في فضائها، ولو في لحظاتك الأخيرة.

استقام الخط.. ودائمًا ما يقصر الطريق بين نقطتين بالخط المستقيم… البداية والنهاية، الحياة والموت.

الجميع يهرول في الحجرة، والبعض يبكي وينتحب. صرخ أحدهم: “لقد توقف القلب”.

إنهم لا يعلمون الحقيقة. الذكرى والفرح والأحزان، ما سواهما ينبض القلب ويخفق. القلب استعاد الحياة.

وهل الحياة سوى بضعة لحظات ومشاعر وذكريات مستعادة؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى