محمد قدرى حلاوة يكتب: حلال
بيان
صوت المنبه اللعين يوقظه من سباته العميق في تمام السادسة صباحًا.
ينقطع صوت الشخير المرتفع في جنبات الغرفة المكتظة بأشباهه، لينتفض قائمًا، قاطعًا أحلامه، بينما يتزاحم أقرانه مسرعين كلٌّ إلى وجهته. هي ليست أحلامًا بالمعنى المعروف، بل مجرد صور متداخلة لا يتذكر منها شيئًا.
أخذ يحك رأسه ويفرك عينيه.. تيار الماء الجاري ينفض بقايا النعاس المخدر عن بدنه، يا لهذا الصنبور اللعين الذي ينفث الماء من جوانبه!.. لا بد من “جلدة” وخيوط “القش” لإحكامه. عليه أن يصلح التسرب حين يعود ليلًا.
هل يشبه ذلك التدفق عمره المتسرب في كل الدروب سعيًا وكدًا وعرقًا؟ ربما، لكن الطريق لا ينتهي، لا ينطق، ينكر خطواته، يمحوها، لا وصول ولا عودة.
“رمضان”، شاب شبح في الثلاثينات من عمره، واحد من ملايين المسحورين بغواية “البندر”. ساقته “النداهة” إلى عاصمة “المعز”، واقتلعت جذوره من خضار قريته.
ربما لا تميز له ملامح خاصة متفردة سوى تلعثم دائم في النطق. هي ملامح الغريب بسمار لفحة شمس الحقل، بصمته العميق، وابتسامته المرسومة بعناية.
تقيةٌ معهودة تجاه “البهوات”، السادة، السلطة والحكومة وكل ما يمثلها، ميراث عميق متجذر، لكن إياك أن تستهين بذكائه ولمّاحيته، هو يعي كل شيء حوله، يختزنه في وعيه، يحتويه في صدره.. رضا؟ خوف؟ صبر؟ حرص؟.. فسرها كما شئت، لكنها سمات الغريب أينما حل وارتحل.
“عوني”، بلدياته، وجد له عملًا عند “العربي”، تاجر الجملة الشهير في المنطقة. “عتّال” يحمل البضائع ويرصها ويفرغ الحمولات.
لعل جسده الضئيل لا يعينه على شقاء المهنة، لكنها لقمة العيش. تلك السردية الأبدية المعجونة والمغموسة دائمًا بالكد والجهد والعرق.
ربما كانت ثلاثة جنيهات أجرة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي مناسبة، لكنها بالتأكيد لا تكفي لتحقيق أحلامه: بناء طابق في منزل جده، ستر أخواته البنات، والزواج من بنت الحلال.
كان مشهد “رزم” النقود في يد المعلم “العربي” وهو يحصيها، يمرر أصبعه عليها بسرعة، يثيره.. تلك النقود الخضراء التي يحرص على عدها في ركن منزوي مظلم من الوكالة.
“المعلم بيتاجر في العملة”، همس “عوني” في أذنه.. أخيرًا عرف السر.
“وهي تجارة العملة دي حلال ولا حرام يا عوني؟” سأل رمضان.
“المعلم العربي يعرف ربنا كويس وأكيد مبيعملش حاجة حرام”.. بدت الإجابة مقنعة له.
الأنوار والمصابيح الملونة تزين جنبات الوكالة، بعضهم يسوقون عجلًا سمينًا، يسقطون قوائمه وسكين الجزار تحز رقبته، بينما ينتفض العجل بأقدامه نبضات الحياة الأخيرة.
كانت أصوات الميكروفون تعلن النبأ السعيد: “المعلم العربي رايح يحج.. هيزور بيت الله”. بينما يكبر المتجمعون عاليًا، عاد الصوت زاعقًا زاجرًا تلك المرة: “كله يقف بنظام، وإلا والله ما حد واخد حاجة”.
صمت الجمع قليلًا، بينما تلهج الألسن بالثناء والدعاء للحاج “العربي”.
“هتاخد بالك من التجارة يا عوني وأنا مسافر.. مش هأوصيك”.. ثم أخذ المعلم “العربي” يهمس سرًا في أذنه، والذي أخذ يردد: “تمام يا معلم”.
وضرب بيده الثقيلة على كتف “رمضان” حتى كاد الأخير يسقط وقال وهو يقهقه: “وأنت يا ض.. هنرقيك. بدل ما تبقى حمار تشيل وتحط، هنرقيك هتبقى جحش هتشيل خفيف خفيف”. ضحك الجميع، بينما اكتفى “رمضان” برسم ابتسامته المعهودة.
الحقيقة أن الترقية الجديدة لرمضان كانت تسليم مبالغ تغيير العملة للعملاء. كان يتيه فخرًا بدوره الجديد، يتأبط “لفة” النقود المغطاة بورق “الجرائد”، ويسير بثقة نحو وجهته المعنية. بادر بالحرص في البداية، ثم أخذ حذره يغادره شيئًا فشيئًا. مرت أيام عيد الأضحى، وذهب في مهمة جديدة. فجأة هبطت أيادٍ قوية على كتفه شلت حركته. أحيط به ووجد نفسه يُلقى في سيارة الشرطة.
“إيه يا باشا.. أنا راجل في حالي ورايح أوصل أمانة.. بطاقتي أهيه يا باشا”.
لم يكد رمضان يكمل جملته حتى وجد صفعة قوية تهبط على وجهه: “بتاجر في العملة يا ابن الكلب!”.
“عوني قالي حلال.. والله قالي حلال”. كانت تلك آخر كلمة ينطقها رمضان ويتذكرها أهل الحي.
عاد المعلم “العربي” – عفوًا، الحاج العربي – من الأراضي المقدسة، “زفة” بلدي تتقدمه ومداحون ينشدون أغاني حب الرسول.. المقرئ الشهير يقرأ وسط سكرة الجموع الحاشدة وهم يلوكون الأرغفة المحشوة باللحم والأرز.
“حبينا نرقيه، بس للأسف الحمار هيفضل حمار.. الحمد لله الخسارة بسيطة تتعوض. أبقى خد يا عوني المائة جنيه دي قوّم له محامي”. قالها الحاج “العربي” وهو يكر حبات مسبحته الخضراء ويتمتم بهمهمات غير مسموعة.
يقول الرواة إن رمضان مات في محبسه، أما الحاج العربي فقد عاش طويلًا، وعندما لاقى وجه ربه، سارت جنازة حاشدة تودعه، تقدم صفوفها كبار القوم وسادته.
أما “عوني”، فقد استطاع بذكائه أن يصبح تاجرًا كبيرًا وصاحب سلسلة ضخمة من متاجر الجملة. واشتهر بالكرم وإغداقه على الفقراء والمساكين.
وتوسطت صورته المبتسمة الراضية لافتة سلسلته الشهيرة: “حلال”.